بسم الله الرحمن الرحيم
حكم التطهّر لقراءة القرآن الكريم و مس المصحف
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيّه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد
المسألة الأولى : لا تجب الطهارة لقراءة القرآن الكريم عن ظهر قلب ، لعموم الأدلّة باستثناء الجنابة ، فإنّ رَفعها واجب قبل القراءة .
روى أحمد و الحُمَيدي كلٌّ في مسنده و أبو داود و النسائي كلٌّ في سننه عن عبد الله بن سلِمة ( بكسر اللام ) قال : أتيت علياً أنا و رجلان ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن و يأكل معنا اللحم و لم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة . قال الخطابي : معناه غير الجنابة .
و روى هذا الحديث أبو ماجة و الترمذي مختصراً بنحوه . و اختُلفَ في إسناده فضعَّفَه بعض أهل العلم ، و صححه الترمذي و ابن حبّان ، و قال ابن حجر في ( الفتح ) : ( الحق أنه من قبيل الحَسَن يصلح للحجة ) ، و هذا هو الظاهر ، و الله أعلم .
جاء في ( عون المعبود ) : و الحديث يدل على جواز القراءة للمحدث بالحدث الأصغر و هو مجمع عليه لم نر فيه خلافا ، و على عدم الجواز للجنب ... قال الخطابي : في الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن و كذلك الحائض لا تقرأ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة . و قال مالك في الجنب إنه لا يقرأ الآية و نحوها , و قد حكي أنه قال تقرأ الحائض و لا يقرأ الجنب لأن الحائض إن لم تقرأ نسيت القرآن لأن أيام الحيض تتطاول و مدة الجنابة لا تطول ، و روي عن ابن المسيب و عكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة الجنب القرآن و أكثر العلماء على تحريمه. اهـ .
قلتُ : و ذهاب بعض العلماء إلى قياس الحيض و النفاس على الجنابة في الحكم ، و حظْرِهم على المتلبّسة بهما قراءة القرآن الكريم ، غير مسلّم ، بل الظاهر أنّ حكمهما مختلف لوجود الفارق بين الحالتين ، إذ يُفرَّقُ بين الجنابة و بين الحدث الأكبر الحاصل بالحيض و النفاس ، بكون رفع الجنابة مقدوراً عليه في كلّ وقت ، بخلاف ما يعرِض للمرأة من شئون النساء التي لا ترتفع إلا لأجل الله أعلم به .
و لِمَا ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة لما حاضت في الحج : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) و معلوم أنّ الحاج يقرأ القرآن ، و لم يستثنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك على جواز القراءة لها ، و قال مثل ذلك لأسماء بنت عميس لمّا ولدت محمد بن أبي بكر في الميقات في حجة الوداع ، فدل هذا على أن الحائض والنفساء لهما قراءة القرآن ، لكن من غير مسٍ للمصحف .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في حكم مسّ المُمَيّز المُحدِث للمصحف على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه يجوز له ذلك ، و هو مذهب الحنفية ، و المالكية ، و الشافعية في أصح القولين عندهم ، و روايةٌ مرجوحة عند الحنابلة .
و القول الثاني : أنه يكره له مسّ المصحف . كراهة تنزيه ، و هو قول لبعض الحنفية ، و المالكية .
و القول الثالث : أنه يحرم عليه مسه . و هو قول للشافعية ، و الراجح عند الحنابلة .
و الراجح عندنا جواز مس الصبي المميز للمصحف حال تلبسه بالحدث الأصغر ، لأنّه دون سنّ التكليف ، و لم يَجرِ عليه القلم ، مع عموم البلوى في حقّه إذ يصعب عليه الاحتياط من الحدث في سن الحفظ و التعلُّم ، مع ما في إلزامه بالوضوء للقراءة كل وقت من العسر و المشقّة ، و المشقة تجلب التيسير كما في القاعدة الفقهيّة ، و الله أعلم .
المسألة الثالثة : اتفق العلماء على تحريم مس المصحف على المتلبس بحدثٍ أكبر ( جنابة أو حيض أو نفاس ) ، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية ، و لا يُعتد بخلافهم لضعف أدلّتهم .
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في حكم مس المصحف للبالغ حال تلبُّسه بالحدث الأصغر ( و هو ما يُرفَع بالوضوء أو التيمم ) ، على قولين :
القول الأول : أنه لا يجوز له ذلك ، و هو المذهب المنقول عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد ابن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ، و سعيد بن زيد ، و سلمان الفارسي ، وغيرهم ، و لا يعرف لهم مخالف ، و قال به جمهور التابعين و منهم : عطاء بن أبي رباح ، و ابن شهاب الزهري ، و الحسن البصري ، و طاووس بن كيسـان ، و النخعي ، و الفقهاء السبعة ، و هو مذهب الأئمة الأربعة .
القول الثاني : أنه يجوز له مس القرآن ، و إليه ذَهَب بعض التابعين ، و هو مذهب الظاهرية .
و الراجح عدم جواز مس المصحف للبالغ المُحدِث حَدَثاً أصغر ، و ذلك للأدلّة التالية :
• أولاً : قال الله عز وجل : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) [الواقعة : 77-80] .
و قد جاءت الآية بصيغة الحصر فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين من الأحداث والأنجاس من بني آدم .
والأصل في الطهارة المطلقة في العرف الشرعي : هي الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر ، و هذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يحفظ عن أحد منهم - فيما نعلم - أنه مس المصحف و هو على غير طهارة ، أو قال بجوازه .
• ثانيًا : روى الدارقطني و البيهقي و الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : ( لما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قال : (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .
• ثالثاً : روى الدارقطني و الهيثمي في المجمع و الطبراني في الكبير بإسناد وثَّقا رجالَه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) ، و جوّد اسناد هذا الحديث ابن حجَر في الفتح ، و نقل تصحيح إسناده عن بعض أهل العلم ( في إعلاء السنن ) .
• رابعاً : روى أبو داود في ( المصاحف ) ، و الهيثمي في مجمع الزوائـد ، و عزا إلى معجم الطبراني الكبير عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال : وفدنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدوني أفضلهم أخذًا للقرآن ، و قد فَضَلتُهم بسورة البقرة ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( قد أمّرتُك على أصحابك و أنت أصغرهم ، و لا تمس القرآن إلا و أنت طاهر ) .
• خامساً : روى عبد الرزاق في مصنفه ، و مالك في موطئه ، وأبو داود في المصاحف ، و الدارمي في سننه ، و الحاكم في مستدركه ، و الدارقطني و البيهقي كلٌّ في سننه ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال : كان في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : ( لا يُمَسُّ القرآنُ إلا على طُهرٍ ) ، قال البغوي : سمعت أحمد بن حنبل ، وقد سُئل عن هذا الحديث فقال : أرجو أن يكون صحيحًا ) ، و قال أيضًا : ( لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه ) .
قلتُُُ : إنّ الأحاديث الدالّة على تحريم مس المصحف على المحدث لا يخلو إسناد كلٍ منها بمفرده من مقال إلا أنها بمجموع طرقها ترقى في أقل أحوالها إلى درجة الحَسَن ، و يقتضي ذلك صحّة الاحتجاج بها ، و وجوب العمل بمقتضاها .
فإذا أضيف إلى هذه الأدلّة إجماع الصحابة السكوتي على القول بعدم جواز مس المحدث البالغ للمصحف ، لزمنا القول بقولهم و اتبّاع مذهبهم في التحريم ، و هذا مذهب الجمهور ، قال شيخ الإسـلام ابن تيمية : ( و أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء كقول الجمهـور ) [ مجموع الفتاوى : 21/288 ] .
و ذهب الحافظ ابن عبد البر أبعدَ من ذلك فقال : ( أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى و على أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر ) [ الاستذكار ، 8/10 ] .
المسألة الخامسة : اخْتَلَف العلماء فِي حكم مَسِّ المصحف بِحَائِلٍ , كَغِلافٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ خِرقة أو نَحْو ذلك . فذهب الْمَالِكِيَّةُ وَ الشَّافِعِيَّةُ إلى القول بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا فقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يحرم مس المصحف بدون طهارة وَ لَوْ كَانَ الْحَائِلُ ثَخِينًا سميكاً , لأنّه يُعَدُّ مَاسًّا في العرف .
وَ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَإِنْ مَسَّهُ بِقَضِيبٍ و نَحْوِهِ وَ كَذَلِكَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ أوَ حَمْلُهُ وَ إِنْ كان الحمل بِعَلاقَةٍ أَو وِسَادَةٍ و استثنوا كون المصحف داخلاً في أَمْتِعَةٍ قَصَدَ حَمْلَهَا جميعاً .
وَ ذهب الْحَنَابِلَةِ إلى القول بجَوَازِ مَسّ المُحْدِثِ للمُصْحَف إذا كان المس من وراء حَائِلٍ مِمَّا لا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ عادة كَالكِيسٍ وَالكُمٍّ ، لأنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ مَسِّ المصحف , وَ مَعَ الْحَائِلِ إنَّمَا يَكُونُ الْمَسُّ له و ليس للْمُصْحَفِ لعَدَم مباشرته .
وَ فَرَّقُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْحَائِلِ الْمُنْفَصِلِ وَ الحائل الْمُتَّصِلِ فَقَالُوا : يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ إلا أن يكون له غلاف مُتَجَافٍ عنه - أَيْ منفصل و غير مخيط به - أَوْ أن يكون في صُرَّةٍ فيمسّها و المصحف بداخلها , أمّا إذا كان الغلاف متّصلاً بالمصحف فلا يجوز مسّه لأنَّ الْمُتَّصِلَ بالشيء جزءٌ مِنْهُ عُرفاً .
و لعدم تفريق الدليل بين مس المصحف بحائل أو بدون حائل ، و بين حائل و آخر من جهةٍ أخرى نرجّح الرجوع إلى العُرف في التفصيل ، فإذا مسّه من خلال ما يعتبر في عُرف الناس حائلاً ، بحيث لا يُقال لمن مسّه إنّه مسّ ما بداخله جاز ، و إن اعتبر ماسّاً لما بداخله عُرفاً ، فحُكمه حكم مس المصحف من حيث اشتراط الطهارة لجوازه و الله أعلم .
المسألة السادسة : لا بأس في مس كتب التفسير على غير طهارة ، و إن كانت متضمنة لآيات القرآن الكريم و سوَرِه عند المالكيّة – غير ابن عَرَفة - و الحنابلة مطلقاً ، لأنه لا يُطلق عليها اسم القرآن عُرفاً ، فلا تأخذ حُكمُه .
و اعتبر أكثر الحنَفيّةُ و الشافعيّة بالقلة والكثرة في الحكم ، فإن كان القرآن مماثلاً لنص التفسير أو أكثر منه كما في بعض كتب غريب القرآن ، و مختصرات التفاسير حرم مسه على غير طهارة ، و إن كان التفسير أكثر جاز مسّه مع الحَدَث .
و هذا هو الراجح بحُكم العُرف الذي يُرجّحُ الغالبَ ، و لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي بكتاب فيه آية إلى قيصر ، كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما .
و عليه فلا بأس في مسّ المحدث كُتُبَ التفسير إذا كان معظمها من غير القرآن الكريم ، كالموسوعات و المطوّلات ، إذ إنّ المتعارف عليه كونه كتباً ، و ليست مصاحف ( على المعنى الاصطلاحي ) ، أمّا كتب الغريب ، و مفردات القرآن ، و مختصرات التفاسير ( كالجلالين و نحوه ) فحكمها حُكم المصاحف ، و لا يحلّ مسّها إلا لطاهر ، و الله تعالى أعلم و أحكم .
و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين
حكم التطهّر لقراءة القرآن الكريم و مس المصحف
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيّه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد
المسألة الأولى : لا تجب الطهارة لقراءة القرآن الكريم عن ظهر قلب ، لعموم الأدلّة باستثناء الجنابة ، فإنّ رَفعها واجب قبل القراءة .
روى أحمد و الحُمَيدي كلٌّ في مسنده و أبو داود و النسائي كلٌّ في سننه عن عبد الله بن سلِمة ( بكسر اللام ) قال : أتيت علياً أنا و رجلان ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن و يأكل معنا اللحم و لم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة . قال الخطابي : معناه غير الجنابة .
و روى هذا الحديث أبو ماجة و الترمذي مختصراً بنحوه . و اختُلفَ في إسناده فضعَّفَه بعض أهل العلم ، و صححه الترمذي و ابن حبّان ، و قال ابن حجر في ( الفتح ) : ( الحق أنه من قبيل الحَسَن يصلح للحجة ) ، و هذا هو الظاهر ، و الله أعلم .
جاء في ( عون المعبود ) : و الحديث يدل على جواز القراءة للمحدث بالحدث الأصغر و هو مجمع عليه لم نر فيه خلافا ، و على عدم الجواز للجنب ... قال الخطابي : في الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن و كذلك الحائض لا تقرأ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة . و قال مالك في الجنب إنه لا يقرأ الآية و نحوها , و قد حكي أنه قال تقرأ الحائض و لا يقرأ الجنب لأن الحائض إن لم تقرأ نسيت القرآن لأن أيام الحيض تتطاول و مدة الجنابة لا تطول ، و روي عن ابن المسيب و عكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة الجنب القرآن و أكثر العلماء على تحريمه. اهـ .
قلتُ : و ذهاب بعض العلماء إلى قياس الحيض و النفاس على الجنابة في الحكم ، و حظْرِهم على المتلبّسة بهما قراءة القرآن الكريم ، غير مسلّم ، بل الظاهر أنّ حكمهما مختلف لوجود الفارق بين الحالتين ، إذ يُفرَّقُ بين الجنابة و بين الحدث الأكبر الحاصل بالحيض و النفاس ، بكون رفع الجنابة مقدوراً عليه في كلّ وقت ، بخلاف ما يعرِض للمرأة من شئون النساء التي لا ترتفع إلا لأجل الله أعلم به .
و لِمَا ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة لما حاضت في الحج : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) و معلوم أنّ الحاج يقرأ القرآن ، و لم يستثنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك على جواز القراءة لها ، و قال مثل ذلك لأسماء بنت عميس لمّا ولدت محمد بن أبي بكر في الميقات في حجة الوداع ، فدل هذا على أن الحائض والنفساء لهما قراءة القرآن ، لكن من غير مسٍ للمصحف .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في حكم مسّ المُمَيّز المُحدِث للمصحف على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه يجوز له ذلك ، و هو مذهب الحنفية ، و المالكية ، و الشافعية في أصح القولين عندهم ، و روايةٌ مرجوحة عند الحنابلة .
و القول الثاني : أنه يكره له مسّ المصحف . كراهة تنزيه ، و هو قول لبعض الحنفية ، و المالكية .
و القول الثالث : أنه يحرم عليه مسه . و هو قول للشافعية ، و الراجح عند الحنابلة .
و الراجح عندنا جواز مس الصبي المميز للمصحف حال تلبسه بالحدث الأصغر ، لأنّه دون سنّ التكليف ، و لم يَجرِ عليه القلم ، مع عموم البلوى في حقّه إذ يصعب عليه الاحتياط من الحدث في سن الحفظ و التعلُّم ، مع ما في إلزامه بالوضوء للقراءة كل وقت من العسر و المشقّة ، و المشقة تجلب التيسير كما في القاعدة الفقهيّة ، و الله أعلم .
المسألة الثالثة : اتفق العلماء على تحريم مس المصحف على المتلبس بحدثٍ أكبر ( جنابة أو حيض أو نفاس ) ، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية ، و لا يُعتد بخلافهم لضعف أدلّتهم .
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في حكم مس المصحف للبالغ حال تلبُّسه بالحدث الأصغر ( و هو ما يُرفَع بالوضوء أو التيمم ) ، على قولين :
القول الأول : أنه لا يجوز له ذلك ، و هو المذهب المنقول عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد ابن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ، و سعيد بن زيد ، و سلمان الفارسي ، وغيرهم ، و لا يعرف لهم مخالف ، و قال به جمهور التابعين و منهم : عطاء بن أبي رباح ، و ابن شهاب الزهري ، و الحسن البصري ، و طاووس بن كيسـان ، و النخعي ، و الفقهاء السبعة ، و هو مذهب الأئمة الأربعة .
القول الثاني : أنه يجوز له مس القرآن ، و إليه ذَهَب بعض التابعين ، و هو مذهب الظاهرية .
و الراجح عدم جواز مس المصحف للبالغ المُحدِث حَدَثاً أصغر ، و ذلك للأدلّة التالية :
• أولاً : قال الله عز وجل : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) [الواقعة : 77-80] .
و قد جاءت الآية بصيغة الحصر فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين من الأحداث والأنجاس من بني آدم .
والأصل في الطهارة المطلقة في العرف الشرعي : هي الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر ، و هذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يحفظ عن أحد منهم - فيما نعلم - أنه مس المصحف و هو على غير طهارة ، أو قال بجوازه .
• ثانيًا : روى الدارقطني و البيهقي و الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : ( لما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قال : (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .
• ثالثاً : روى الدارقطني و الهيثمي في المجمع و الطبراني في الكبير بإسناد وثَّقا رجالَه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) ، و جوّد اسناد هذا الحديث ابن حجَر في الفتح ، و نقل تصحيح إسناده عن بعض أهل العلم ( في إعلاء السنن ) .
• رابعاً : روى أبو داود في ( المصاحف ) ، و الهيثمي في مجمع الزوائـد ، و عزا إلى معجم الطبراني الكبير عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال : وفدنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدوني أفضلهم أخذًا للقرآن ، و قد فَضَلتُهم بسورة البقرة ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( قد أمّرتُك على أصحابك و أنت أصغرهم ، و لا تمس القرآن إلا و أنت طاهر ) .
• خامساً : روى عبد الرزاق في مصنفه ، و مالك في موطئه ، وأبو داود في المصاحف ، و الدارمي في سننه ، و الحاكم في مستدركه ، و الدارقطني و البيهقي كلٌّ في سننه ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال : كان في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : ( لا يُمَسُّ القرآنُ إلا على طُهرٍ ) ، قال البغوي : سمعت أحمد بن حنبل ، وقد سُئل عن هذا الحديث فقال : أرجو أن يكون صحيحًا ) ، و قال أيضًا : ( لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه ) .
قلتُُُ : إنّ الأحاديث الدالّة على تحريم مس المصحف على المحدث لا يخلو إسناد كلٍ منها بمفرده من مقال إلا أنها بمجموع طرقها ترقى في أقل أحوالها إلى درجة الحَسَن ، و يقتضي ذلك صحّة الاحتجاج بها ، و وجوب العمل بمقتضاها .
فإذا أضيف إلى هذه الأدلّة إجماع الصحابة السكوتي على القول بعدم جواز مس المحدث البالغ للمصحف ، لزمنا القول بقولهم و اتبّاع مذهبهم في التحريم ، و هذا مذهب الجمهور ، قال شيخ الإسـلام ابن تيمية : ( و أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء كقول الجمهـور ) [ مجموع الفتاوى : 21/288 ] .
و ذهب الحافظ ابن عبد البر أبعدَ من ذلك فقال : ( أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى و على أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر ) [ الاستذكار ، 8/10 ] .
المسألة الخامسة : اخْتَلَف العلماء فِي حكم مَسِّ المصحف بِحَائِلٍ , كَغِلافٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ خِرقة أو نَحْو ذلك . فذهب الْمَالِكِيَّةُ وَ الشَّافِعِيَّةُ إلى القول بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا فقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يحرم مس المصحف بدون طهارة وَ لَوْ كَانَ الْحَائِلُ ثَخِينًا سميكاً , لأنّه يُعَدُّ مَاسًّا في العرف .
وَ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَإِنْ مَسَّهُ بِقَضِيبٍ و نَحْوِهِ وَ كَذَلِكَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ أوَ حَمْلُهُ وَ إِنْ كان الحمل بِعَلاقَةٍ أَو وِسَادَةٍ و استثنوا كون المصحف داخلاً في أَمْتِعَةٍ قَصَدَ حَمْلَهَا جميعاً .
وَ ذهب الْحَنَابِلَةِ إلى القول بجَوَازِ مَسّ المُحْدِثِ للمُصْحَف إذا كان المس من وراء حَائِلٍ مِمَّا لا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ عادة كَالكِيسٍ وَالكُمٍّ ، لأنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ مَسِّ المصحف , وَ مَعَ الْحَائِلِ إنَّمَا يَكُونُ الْمَسُّ له و ليس للْمُصْحَفِ لعَدَم مباشرته .
وَ فَرَّقُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْحَائِلِ الْمُنْفَصِلِ وَ الحائل الْمُتَّصِلِ فَقَالُوا : يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ إلا أن يكون له غلاف مُتَجَافٍ عنه - أَيْ منفصل و غير مخيط به - أَوْ أن يكون في صُرَّةٍ فيمسّها و المصحف بداخلها , أمّا إذا كان الغلاف متّصلاً بالمصحف فلا يجوز مسّه لأنَّ الْمُتَّصِلَ بالشيء جزءٌ مِنْهُ عُرفاً .
و لعدم تفريق الدليل بين مس المصحف بحائل أو بدون حائل ، و بين حائل و آخر من جهةٍ أخرى نرجّح الرجوع إلى العُرف في التفصيل ، فإذا مسّه من خلال ما يعتبر في عُرف الناس حائلاً ، بحيث لا يُقال لمن مسّه إنّه مسّ ما بداخله جاز ، و إن اعتبر ماسّاً لما بداخله عُرفاً ، فحُكمه حكم مس المصحف من حيث اشتراط الطهارة لجوازه و الله أعلم .
المسألة السادسة : لا بأس في مس كتب التفسير على غير طهارة ، و إن كانت متضمنة لآيات القرآن الكريم و سوَرِه عند المالكيّة – غير ابن عَرَفة - و الحنابلة مطلقاً ، لأنه لا يُطلق عليها اسم القرآن عُرفاً ، فلا تأخذ حُكمُه .
و اعتبر أكثر الحنَفيّةُ و الشافعيّة بالقلة والكثرة في الحكم ، فإن كان القرآن مماثلاً لنص التفسير أو أكثر منه كما في بعض كتب غريب القرآن ، و مختصرات التفاسير حرم مسه على غير طهارة ، و إن كان التفسير أكثر جاز مسّه مع الحَدَث .
و هذا هو الراجح بحُكم العُرف الذي يُرجّحُ الغالبَ ، و لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي بكتاب فيه آية إلى قيصر ، كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما .
و عليه فلا بأس في مسّ المحدث كُتُبَ التفسير إذا كان معظمها من غير القرآن الكريم ، كالموسوعات و المطوّلات ، إذ إنّ المتعارف عليه كونه كتباً ، و ليست مصاحف ( على المعنى الاصطلاحي ) ، أمّا كتب الغريب ، و مفردات القرآن ، و مختصرات التفاسير ( كالجلالين و نحوه ) فحكمها حُكم المصاحف ، و لا يحلّ مسّها إلا لطاهر ، و الله تعالى أعلم و أحكم .
و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين