بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين وبعد :-
قرات هذا البحث - والمهم جدا لاهل الاختصاص - واحببت ان يطلع عليه المقرؤون والقراء من حاملي القران والمجازون بالقراءات القرانية لما فيه من فوائد جمة . واجتزأت منها المبحث الاول الى المبحث السابع عشر فيما يخص الاجازة والمجيز والمجاز ومن الله التوفيق...
الاجازة
التمهيــد
لقد عُني النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإقراء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم القرآن الكريم، كما عُني بتلقيه من جبريل --.
فقد تلقَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآن عن جبريل -صلى الله عليه وسلم- عرضًا وسماعًا كما قال تعالى:
أخرج البخاري في صحيحه( ) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قولـه تعالى: قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعالجُ من التنـزيل شدة، وكان مما يُحرِّك شفتيه... إلى قولـه: فأنزل الله تعالى ثم إنَّ علينا أن تقرأَهُ. فكان رسولُ الله بعد ذلك إذا أتاه جبريلُ استمع. فإذا انطلق جبريلُ قرأهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما قرأهُ.
وجاء في حديث فاطمة -رضي الله عنها- وهو في الصحيح( ) أن النبيأسرَّ إليها « أن جبريل كان يُعارضُنِي بالقرآن كُلَّ سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أَراهُ إلا حضر أجلي ».
وفي حديث أبي هريرة --( ) قال: « كان يعرض أي: [جبريل] على النبيِّ صلى الله عليه وسلم القرآن كُلَّ عامٍ مرَّةً، فعرَضَ عليه مرَّتين في العام الذي قبض فيه... ».
يؤخذ من آيات سورة القيامة والأحاديث المتقدمة، وما شابهها أن النبي أخذ القرآن الكريم مشافهةً، عرضًا وسماعًا على جبريل --، وهي أصل في هذا الباب( ).
إذ يُعرَّف العَرْض: بأنهُ قراءة الطالب على الشيخ، وهو أثبت وأوكد من السَّماع.
والسَّماع: هو التلقي من لفظ الشيخ، وهذا النوع -أعني السَّماع- لا يكفي في تأدية القرآن الكريم صحيحًا كما نزل، إذ ليس كُلُّ من سمع من لفظ الشيخ يقدِرُ على الأداء كهيئته، ولكن فصاحة الصحابة -- وطباعهم السليمة اقتضت قدرتهم على الأداء، كما سمعوه منه ، لأنه نزل بلغتهم( ).
قال أبوعمرو الداني( ): عَرْضُ القرآن على أهل القراءة المشهورين بالإمامة، المُختصين بالدراية؛ سُنَّة من السُّنن التي لا يسعُ أحدًا تركُها رغبةً عنها، ولابُدَّ لمن أراد الإقراء والتصدُّر منها.
والأصلُ في ذلك ما أجمع العلماء على قبولـه، وصحة وروده، وهو: عرض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل عام على جبريل عليه السلام، وعرضُهُ على أُبيِّ بن كعب بأمر الله لهُ بذلك، وعرضُ أُبيٍّ عليه، وعرضُ غيرُ واحدٍ من الصحابة على أُبيِّ، وعرضُ الصحابة بعضُهم على بعض، ثم عرض التابعين، ومن تقدَّم من أئمة المسلمين، جيلاً فجيلاً وطبقةً بعد طبقةٍ، إلى عصرنا هذا.
فكلُّ مُقرئٍ أهمل العرض، واجتزأ( ) بمعرفته، أو بما تعلَّم في المكتب من مُعلِّمه الذي اعتمادُهُ على المصحف، أو على الصحائف دون العرض، أو تمسَّك فيما يأخذ به ويُعلِّمهُ بما يظهر لهُ من جهة إعرابٍ أو معنىً أو لغةٍ، دون المروي عن أئمة القراءة بالأمصار المجتمع على إمامتهم، فمُبتدعٌ مذموم، مخالف لما عليه الجماعة من علماء المسلمين، تارك لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرَّاءَ القرآن من تلاوته بما عُلِّمه وأُقريء به، وذلك لا يوجد إلا عندما ينقلُهُ متواترًا، ويرويه مُتصلاً، فلا يُقلَّدُّ القراءةَ من تلك الصفة، ولا يُحتجُّ بأخذه » اهـ( ).
إن الإجازة القرآنية نوع من أنواع الإجازات العلمية المُتعدِّدة فهناك إجازات المُحدِّثين وهي الأصل في هذا العلم ومبدؤُه، وإجازات الفقهاء وإجازات القضاة وإجازات الخطَّاطين، وإجازات الشعراء، وإجازات الأطباء، بل إن هناك إجازاتٍ أخرى تقديريةً وتكريميةً بين العلماء بعضهم بعض، وبين العلماء والملوك والأمراء( ).
فشملت الإجازاتُ العلميةُ سائرَ العلوم الشرعية، وتجاوزتها بشكلٍ سريع إلى العلوم الإنسانية والمآدية.
وأصبحت الإجازة بحد ذاتها أمنية لدى الناس في نيلها والحصول عليها بل ويَلحُّون في طلبها( ).
المبحث الأول
تعريف الإجازة لغةً واصطلاحًا
لغةً: الجَوْزُ: وسطُ الشيء، والجوازُ: الشاةُ يُبيَّضُ وسطُها، والجَوْزاءُ نجم، سُميِّت بذلك لأنها تعترضُ في جَوْزِ السماء أي: في وسَطِها( ).
والإجازة: مصدر فعل أجاز، يتضمَّن عدة معانٍ منها:
أولاً: بمعنى قطع الطريق أو الموضع أو المسافة.
قال الليث: جَزْتُ الطريق جَوازَا، ومجازًا وجُؤوزًا، والمجاز: الموضع، وكذلك المجازة( ).
قال أبوعُبيد: قال الأصمعيُّ: جُزتُ الموضع: سِرتُ فيه، وأجزتُهُ: خلَّفتُهُ وقطعتُه، وأجزتُهُ: أنفذتُه ( )، قال امرؤ القيس:
فلما أَجزْنا ساحة الحيِّ وانتحى بنا بطنُ خَبْتٍ ذي حقِافٍ عَقْنقلِ
وقال أوسُ بنُ مغراء:
حتى يقالَ أَجيزُوا آل صَفوانا
أي: أنفِذُوهم يمدحُهُم بأنهم يُجيزون الحآج اهـ( ).
ثانيًا: بمعنى إنفاذ الأمر والرأي.
يُقال: « أجاز رأيه، أنفذه كجوَّزهُ، وفي الحديث: إني لا أُجيز اليوم على نفسي إلا شاهدًا مِنِّي »( ).
أي: لا أُنفِد ولا أُمضي( ).
ثالثًا: بمعنى: الجائزة أو العطية:
يُقال: أجاز يُجيزُهُ، إذا أعطاهُ.
وفي الحديث: « أَجيزوا الوفد بنحو ما كنتُ أُجيزُهم به »( ).
أي: أعطوهم الجائزة( ).
رابعًا: قيل: هو مشتق من جَواز الماء.
والجَوازُ: هو الماءُ الذي يُسقاةُ المالُ من الماشية والحرث ونحوه.
وقد استجزتُهُ فأجاز، إذا سقى أرضَك أو ماشيتك، وهو مَجازٌ، قال الشاعر:
وقالوا: فُقَيْمٌ قَيِّمُ الماءِ فاستَجِزْ عُبادةَ إن المُستجيزَ على قُتْرِِ( )
أي: على ناحيته( ).
والإجازة في علم القوافي هي: من عيوب القافية، كأن تكون القافية طاءً، والأُخرى دالًا، وهو ما يُسمى أيضًا بـ الإكفاء ( ).
والإجازة في اصطلاح المحدِّثين هي: إذن في الرواية لفظًا أو خطًا( ).
وأركانُها أربعة المُجيز، والمُجاز لـه، والمُجاز به، ولفظ الإجازة( ).
وألفاظها: الإذن والأهلية، ثم الإجازة والأهلية، ثم الإذن مُجرَّدًا، ثم الإجازة مُجرَّدة.
يقول ابن الجزري( ): « وأعلى ما يكتب للمجاز الإذن والأهلية، لا يُكتب إلا لذاك وذاك، ثم الإجازة والأهلية، ثم الإذن مُجرَّدًا، ثم الإجازة كذلك، ويجوز لهُ أن يقول: أجزتُ لـهُ أن يُقرئ بكذا عند تأهله لذلك »( ).
والإجازةُ في اصطلاح القُرَّاء هي: شهادةٌ من المُجيز للمُجاز لهُ في الإقراء.
وهذا التعريف [أي] الاصطلاحي إنما أخذتُهُ عن طريق الاستقراء، ولعلَّ ما أشار إليه السِّيوطيُّ في الإتقان (1/135-136) عند حديثه عن شرطية الإجازة في الإقراء وهو قولُه: « فجُعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمُجاز...»( ) اهـ.
المبحث الثاني
تاريخ الإجازة القرآنية
إنَّ الإجازة شهادةٌ من المُجيز [المقرئ] إلى المُجاز [القارئ]، وهذه الشهادة تزكية للقارئ على حُسن أدائه وجودة قراءته.
وإن الناظر في تزكية النبي لبعض أصحابه -- على حُسن قراءتهم وجودتها إنما هي إجازة لفظية من خير البريِّة لخير القرون، وهم أصحابه رضوان الله تعالى عليهم وهي أوثق بلا شك من الإجازة الكتابية وذلك باعتبار المُجيز والمُجاز لهُ.
وإليك بعض النصوص الدالة على ما أردتُ بيانهُ ومن ذلك:
1- ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما( ) عن ابن مسعود -- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خُذوا القرآن من أربعة، من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبيِ بن كعب ».
2- ما أخرجه الشيخان ( ) عن عبدالله بن مسعود -- قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم « اقرأ عليَّ القرآن، قلتُ: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال إني أحبُّ أن أسمعه من غيري ».
3- ما أخرجهُ الشيخان( ) أيضًا عن أنس بن مالك -- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأُبيّ إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: آلله سمَّاني لك؟ قال: آللهُ سمَّاك لي، قال فجعل أُبيّ يبكي » واللفظ لمسلم.
إن هذه الأحاديث بمجموعها لتدلُّ دلالةً واضحة بينةً على تزكية النبي لأولئك الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم لإجازته لهم إجازةً لفظية وشهادة عُظمى من خير مُجيز لخير مُجاز.
4- أخرج البغويُّ في شرح السُّنة( ): أن زيد بن ثابت -- شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل، وهي التي بيَّن فيها ما نُسخ وما بقي.
قال أبوعبدالرحمن السُّلمي هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئُ الناسَ بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبوبكر وعمر في جمعه، وولاهُ عثمان كتبة المصاحف أجمعين ». اهـ.
إذ يُستفاد من هذا النص ما يأتي:
أولاً: أن الاعتمادَ على زيد بن ثابت -- في بيان ما نُسخ وما بقي من كتاب الله تعالى بناءً على حضوره العرضة الأخيرة تُعدُّ هذه بمثابة إجازة سماع ( ) لزيد -- من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتماد الصحابة على زيد -- في كتبة المصاحف بعد وفاة رسول الله .
ثانيًا: عرضُ زيد -- القرآن على رسول الله شرفٌ ومزيةٌ ورفعةٌ لهُ -صلى الله عليه وسلم - على غيره من الصحابة أجمعين.
- لم أقف على نصٍ قاطع في بداية مصطلح الإجازة القرآنية، ولكن الذي يظهر واللهُ أعلم أن [ظهور هذا المصطلح جاء متزامنًا مع بداية التصنيف في القراءات القرآنية في القرن الثالث الهجري.
ويوضح ذلك ما جاء في ترجمة: محمد بن إدريس بن المنذر - أبوحاتم الرازي( ) المُتوفى سنة خمسٍ وسبعين ومائتين؛ إذ روى القراءة عنهُ إجازة الإمام أبوبكر بن مجاهد( ) المُتوفى سنة أربعٍ وعشرين وثلاثمائة.
وكما جاء أيضًا في ترجمة: عبدالصمد بن محمد بن أبي عمران هو أبومحمد الهمداني المقدسي( ) المتوفى سنة أربع وتسعين ومائتين؛ إذ روى عنهُ القراءة إجازةً أحمد بن يعقوب التائب( ) المُتوفى سنة أربعين وثلاثمائة]( ).
المبحث الثالث
الغرض من الإجازة القرآنية
إنَّ مما لا شك فيه أن طلب السند في قراءةٍ صحيحة إلى رسول الله أمر محمود شرعًا، كيف لا وقد جاء عن بعض السلف -يرحمهم الله تعالى- الرحلة في طلب الحديث( )، أفلا تكون الرحلة في طلب سندٍ صحيحٍ عن رسول الله في قراءة صحيحة أمرًا محمودًا، بل إن صاحبها مأجور مشكور إن شاء الله تعالى.
ولكن يعيبُ في هذا الشأن طلب الإجازة القرآنية من غير مُتقنٍ فيتعلَّق صاحبُها بالسَّند، دون القراءة الصحيحة، أو بعبارة أخرى تكون عينهُ الأولى على المُقرئ والعينُ الأخرى على الإجازة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى( ).
ويجب التنبيه: إلى أن الإجازة القرآنية طريق لإتقان قراءة القرآن الكريم، ولكنها ليست شرطًا فيه، كما أنها ليست شرطًا للتصدُّر للإقراء -كما سيأتي إن شاء الله تعالى-( )، إذ كم من حاصلٍ على إجازة قرآنية في قراءة أو أكثر؛ وقراءتُهُ يشوبها قليل أو كثير من الُّلحون الجلية فضلاً على الُّلحون الخفية.
المبحث الرابع
شروط الإجازة القرآنية
إن هناك أمورًا مشتركةً بين شروط القارئ والمقرئ وبين المُجيز والمُجاز لـهُ. وإن كان مما لا شك فيه أنه ليس كل من أقرأ أو أجاز صحَّ ذلك منه، ولكن كل مُجيز مقرءًا في الغالب وليس كل مقرئ مُجيزًا.
وإن هناك شُروطًا لابد منها في صحة الإجازة القرآنية وهي:
أولاً: شروط مشتركة بين المُجيز والمجاز لـه:
ذكر بعضُ أهل العلم شروطًا للمقرئ تصلُح أن تكون للمجيز والمجاز لـه، وهي بالجملة: أن يكون مسلمًا عاقلاً بالغًا ثقًة مأمونًا ضابطًا خاليًا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة( ).
ثانيًا: شروط خاصة بالمُجيز:
إن هناك شروطًا مُختصة بالمُقرئ بالإضافة إلى ما تقدَّم وهي:
أولاً: العلمُ الشرعي.
ويشملُ هذا النوع الفقه في الدين وهو ما يصلُحُ به أمر دينه أولاً، ولا بأس من الزيادة في التفقة، بحيث إنهُ يرشد طلبته وغيرهم، إذا وقع لهم شيء( ).
ثانياً: معرفته لأحكام التجويد خاصةً إذ به يُعرف وبعلمه يتصدَّر.
يقولُ مكي بن أبي طالب في الرعاية( ): « والمقرئ إلى جميع ما ذكرناهُ في كتابنا هذا أحوج من القارئ؛ لأنه إذا علمه علَّمه، وإذا لم يعلمه لم يُعلِّمه، فيستوي في الجهل بالصَّواب في ذلك القارئُ والمقرئُ، ويَضِلُّ القارئُ بضلال المقرئ، فلا فضل لأحدهما على الآخر.
فمعرفةُ ما ذكرنا لا يسعُ من انتصب للإقراء جهلُهُ، وبه تكمُلُ حالُه....
إلى قولـه: فلا يرضينَّ امرؤ لنفسه في كتاب الله جلَّ ذكرُه وتجويد ألفاظه، إلا بأعلى الأُمور، وأسلمها من الخطأ والزَّلل، والله المُوفِّق للصواب » اهـ( ).
ويقول أبوعمرو الداني: « وقد أغفل الناسُ معرفةَ التجويد، وتهاونوا بتفقد التلاوة، حتى صار الغالب على طالبي القراءة ترك استعمال ذلك والأخذ به، ووجدوا من المُتصدِّرين من يُسهِّل لـهم فيه، ويُرخِّص لهم في تركه والأخذ به، فجرتْ على ذلك عادتهم، وتحكَّمتْ عليه طباعُهُم، وقد كان لتجويد التلاوة، وتحقيق القراءة، وأداء ذلك على حقه، واستعمال النطق به على واجبه، في قديم الدَّهر عند الأئمة خطر، وعند جميع المُتصدِّرين من المشيخة بال، لكن بدروس العلم، وذهاب أهله، وغلبة الجهل، وكثرة منتحليه، أُضرب عن ذلك، واستُخِفَّ به، واستُجيز غيرُهُ، واستُعمل ضدُّه، فدُرِستْ آثارُهُ ودُثِرتْ أعلامُهُ »( ) اهـ.
قلت: إن معرفته لأحكام التجويد تشملُ مخارج الحروف وصفاتها، فضلاً على أحكام التجويد الأخرى.
ثالثًا: معرفتُهُ لعلم الوقف والابتداء والرسم والضبط والفواصل وهو فنُّ عدد الآيات( )، إذ بهذه العلوم يُعرف المقرئُ من غيره.
يقول السيوطي( ) في الإتقان: « ومن ثمَّ اشترط كثير من الخلف على المُجيز أن لا يجيز أحدًا إلا بمعرفته الوقف والابتداء »( ) اهـ.
ويقول أبوبكر المَرْعشي( ) في جُهد المُقل: « وليكُن أيضًا عالَماً برسم المصحف ليُنبِّه المُتعلِّم عليه، إذ قد لا يُساوي رسمُها التَّلُّفظَ، ولا يُقاس رسمُها على الخط العربي.... وبيانُه في كتب رسم المصاحف مثل: المُقنع للداني، والرائية للشاطبي »( ) اهـ.
« وأما علم( ) العدد فلأن بعض القراء زاد على رسم الخط ستين ياءً في رؤوس الآي، وبعضُهم أمال رؤوسَ الآي من بعض السُّور، وبعضٌ من أصحاب الأزرق عن ورش رقَّق ما غلَّظهُ من اللاَّماتِ الواقعة في رؤوس الآي الممالة، فاحتيج إلى معرفة الفواصل من غيرها من موطنه إذا كان أمرًا توقيفيًا لا مجال للاجتهاد فيه... »( ) إلخ.
رابعًا: تحصيلُه طرفًا من علوم القرآن الكريم والتفسير( ):
خامسًا: العلمُ بأسانيد القُرَّاء وطرقهم ورواياتهم( ):
للسلف يرحمهم الله تعالى كلام نفيس في أهمية السَّند وأنه من الدِّين.
يقول سفيانُ الثوري( ) -يرحمه الله تعالى-: « الإسنادُ سلاحُ المؤمن، إذا لم يكن معهُ سلاح ، فبأي شيء يقاتل؟ »( ) اهـ.
ويقول عبدالله بن المبارك( ) -يرحمه الله تعالى-: « الإسناد من الدِّين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء »( ) اهـ.
قلت: إن معرفة المقرئ لأسانيد القراء وطرق الكتاب المقروء بمضمنه ورواياته يحميه من الخلط والترتيب بين الطرق والروايات، وإسناد قراءةٍ إلى أخرى، إذ يُعاب على أكثر القراء عدم علمهم بالأسانيد كما أشار إلى ذلك ابن الجزري( ).
ويقول أيضًا: « ولابُدَّ للمقرئ من أَنَسةٍ بحال الرِّجال والأسانيد، مؤتَلفها ومُختَلفها، وجَرحها وتعديلها، ومُتْقنَها ومُغَفَلها، وهذا من أهمِّ ما يُحتاج إليه، وقد وقع لكثير من المتقدمين في أسانيد كتبهم أوهام كثيرة، وغلَطاتٌ عديدةٌ، من إسقاط رجالٍ، وتسميةِ آخرين بغير أسمائهم، وتصاحيف، وغير ذلك »( ) اهـ.
ويقول الصفاقسيُّ( ) في غيث النفع: « علم الأسانيد وهو الطرق المُوصلةُ إلى القرآن وهو من أعظم ما يُحتاج إليه لأن القرآن سنة متبعة ونقل محض فلابُدَّ من إثباتها وتواترها ولا طريق إلى ذلك إلا بهذا الفن»( ) اهـ.
ويقول أيضًا: « إذ لابُدَّ لكل من قرأ بمضمَّن كتاب أن يعرف طرقه ليسلم من التركيب... ومن أخرج عن طرق كتابه فهو على جهة الحكاية وتتميم الفائدة »( ).
سادسًا: يلزم المقرئ المُجيز حفظ كتابٍ حاوٍ لما يُقرئ به من القراءات أصولاً وفرشًا لئلا يُداخلُهُ الوهم والغلط.
يقول ابن الجزري في منجد المقرئين: « ويلزمُهُ -أيضًا- أن يحفظ كتابًا مشتملاً على ما يُقرئُ به من القراءات أصولاً وفرشًا، وإلا داخَلَهُ الوهم والغلط في كثير، وإن أقرأ بكتاب وهو غير حافظٍ لـهُ، فلابُدَّ أن يكون ذاكرًا كيفيةَ تلاوته به حال تلقِّيه من شيخه، مُستصحبًا ذلك، فإن شكَّ في شيءٍ فلا يستنكف أن يسأل رفيقَه أو غيرهُ مِمَّن قرأ بذلك الكتاب، حتى يتحقق بطريق القطع أو غلبةِ الظن... إلخ »( ).
سابعًا: أن لا يُقرئَ إلا بما قرأ أو سمع:
يقول ابن الجزري: « ولا يجوز لـه أن يُقرئَ إلا بما قرأ أو سمع، فإن قرأ الحروف المختلف فيها أو سمعها، فلا خلاف في جواز إقرائه القرآن العظيم بها، بالشرط المُتقدِّم، وهو أن يكون ذاكرًا... » إلخ( ).
ثامنًا: العلم باللُّغة العربية( ).
إن تحصيل المقرئ المُجيز جانبًا من النحو والصرف مهم جدًا في توجيه ما يقعُ لـه من القراءات القرآنية »( ) اهـ.
المبحث الخامس
الإشهاد على الإجازة
الإشهادُ على الإجازة عند الشيخِ مُهمةٌ في توثيق الإجازة وثبوتها إذ إن الشهادة في دين الله مُعتبرة، بها تُقام الحُدودُ، وبها تُرفع المظالم.
والإشهادُ على الإجازة تكون بحضور من هُم في طبقة الشيخ ما أمكن ذلك، أو من أحد تلاميذه، أو من غيرهم مِمَّن هم من أهل الثقة والعدالة.
يقول ابن الجزري في منجد المُقرئين ص(67): « وأما ما جرت به العادةُ من الإشهاد على الشيخ بالإجازة والقراءة فحسنٌ يرفعُ التُّهمة، ويُسكِنُ القلبَ، وأمرُ الشهادة يتعلَّقُ بالقارئ يُشهد على الشيخ من يختار، والأحسن أن يُشهد أقرانَه النجباء من القراء المُنتهين؛ لأنهُ أنفع لهُ حال كِبَرِه » اهـ.
ومن الشواهد على الإشهاد على الإجازة: ما ذكره ابن الجزري في ترجمة محمد ابن عبدالرحمن بن علي بن أبي الحسن شمس الدين بن الصائغ الحنفي، ت776هـ ما نصُّه: « فقرأتُ عليه فلما أن ختمتُ عليه الختمة الثانية وكتب لي الإجازة بخطه سألتُه أن يذهب إلى شيخنا جمال الدين عبدالرحيم الأَسنوي شيخ الشافعية فذهب إليه وهو بالمدينة الناصرية من القاهرة فأشهده وما كان شيخُنا الأَسنوي يعلمُ أني أقرأُ القراءاتِ فقال لـهُ: والقراءاتِ أيضًا، فقال وغيرَها من العلوم » اهـ( ).
ومما جاء في الإشهاد على الإجازة أيضًا ما ذكرهُ ابن الجزري في ترجمة القاضي محب الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية - ت سنة 708هـ: « قلت: وقرأتُ عليه جمعًا من البقرة إلى قولـه "ختم الله" وأجازني وشهد في أجائزي » اهـ( ).
». اهـ( ).
قلتُ: إن الإشهاد على الإجازة ليس شرطًا في صحتها ولكنه زيادةٌ في التوثق والتثبُّت، وهو نمط معروف معمول به في الإجازات القرآنية في بعض البلاد الإسلامية، وخاصة في بلاد المغرب العربي.
يقول الدكتور محمد النبهان: « وأسلوب هذه الإجازات يأتي على الشكل التالي: فبعد الافتتاحية المُطوَّلة يُحدِّد الأستاذُ اسمه واسم التلميذ المجاز ثم يذكر أن التلميذ عرض عليه القرآن الكريم بقراءة نافع أو في قراءات الأئمة السبعة وعرض عليه أيضًا المُتون الدراسية المُشار إليها، فيشهد المعلمُ بعد ذلك بأن المُمتحِنَ أدَّى ذلك على وجه المطلوب ويعقب بذكر إجازته فيما استظهره بين يديه، ويتوسَّعُ في ذكر أسانيده للقرآن الكريم والمعروضات الأُخرى. وإثر تاريخ الإجازة يأتي توقيع الأستاذ فيُزكي إمضاءهُ الحاضرون من العلماء والأشراف بتوقيعاتهم كذلك وأخيرًا قاضي البلد بإمضائه أيضًا » اهـ( ).
المبحث السادس
هل الإجازة شرط في الإقراء؟
إن عدم وجود إجازةٍ علمية عند شيخ من المشايخ ليست دليلاً على هبوط مستواه العلمي، فما أكثر من ارتفعت سمعتهم العلميةُ وهم لم تُسعِفهم الظروف لأخذ إجازاتٍ علميةً من مشائخهم أو لم يُذكر عنهم ذلك.
وهي بذلك تُشبه الشهاداتِ العلميةَ المُتخصصة في الوقت الحاضر، والتي لا يعني الحصول عليها أن حاملها لا يُشق لهُ غبار في تخصصه، لأنها أحيانًا تكون غير دقيقة أو لا تُمثِّلُ الواقع العلمي للشخص الحاصل عليها( ).
يقول السيوطي في الإتقان: « الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدِّي للإقراء والإفادة، فمن علِم من نفسه الأهلية جاز لـه ذلك وإن لم يُجْزهُ أحد، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح، وكذلك في كل علم وفي الإقراء والإفتاء، خلافًا لما يتوهَّمُهُ الأغبياء من اعتقاد كونه شرطًا، وإنما اصطلح الناسُ على الإجازة لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالبًا من يُريد الأخذ عنهُ من المُبتدئين ونحوهم، لقصور مقامهم عن ذلك.
والبحث عن الأهلية قبل الأخذ شرط، فجُعلت الإجازةُ كالشهادة من الشيخ للمجاز بالأهلية » اهـ( ).
المبحث السابع
أخذ المال على الإجازة
إن أخذ المقرئ المال على الإجازة القرآنية لا بأس بذلك والله أعلم ما لم يشترط( )؛ وأما إن اشترط أخذ المال على الإجازة سواء كان قبل الإجازة أم بعدها، فقد نقل السيوطي الإجماع على عدم جواز ذلك.
قال في الإتقان: « ما اعتادهُ كثير من مشايخ القُراء من امتناعهم من الإجازة إلا بأخذ مالٍ في مقابلها لا يجوز إجماعًا، بل إن علم أهليته وجب عليه الإجازة أو عدمِها حرُم عليه، وليست الإجازة مما يقابل بالمال فلا يجوز أخذهُ عنها ولا الأجُرةُ عليها ». اهـ.( ).
قلتُ: وأخذُ المال على الإجازة لا يمنع من صحتها، ولا يقدح سندها.
قال الإمام الذهبيُّ في ترجمة محمد بن زين الدين أبوحامد الهُذلي المقرئ الضرير المُتوفى سنة أربع وثمانين وستمائة ما نصُّه: « وحدَّثني بهاء الدين محمد بن علي المقرئ أنهُ سمع الوحيد يقول: امتنع الصائنُ أن يكتب لِيَ الإجازة، إلا أن أُعطيهُ جوْخةَ( )، فما تهيأَ ذلك، فتشفَّعتُ إليه فغضِبَ وحلفَ لا أُجيزك إلا بخُلْعةٍ( ) وبَغلة، قال: فسكتُّ عن طلب الإجازة.
قلتُ: وثق القراءُ بقول وحيد وبمعرفته، وأخذوا عنهُ، وإنما فائدة الإجازة معرفة الإسناد، وإسناد المنتجب معروف مُتَّصل ». اهـ( ).
وأما تورُّع المقرئ عن أخذ شيء من المال لإجازته وإقرائه فهو الأحسن والأكمل.
قال الذهبي: قال أحمد بن عبدالله العجلي: ثنا أبي، قال حمزة كان سَنةً بالكوفة وسَنَةً بحُلْوان، فختم عليه رجل من أهل حُلْوان من مشاهيرهم، فبعث إليه بألف درهم، فقال لابنه: قد كنتُ أظن لك عقلاً، أفآخُذُ على القرآن أجرًا، أرجو على هذا الفردوس ». اهـ( )( ).
المبحث الثامن
الفرقُ بين الإجازة المقرونة بالعرض والسَّماع
والإجازة المجرَّدة عنهما
إن أعلى درجات الإجازة القرآنية هي تلك المقرونة بالعرض والسَّماع، وثانيها التي تكون بالعرض وحدُه وهي أكثرها وثالثها تكون بالسماع وحدهُ وهي أقلها.
ولم أقف على خلافٍ في جواز هذه الأنواع الثلاثة، ولكنَّ الخلافَ حاصل في الإجازة المُجرَّدة عنهما أي [العرض والسماع].
ولقد جوَّز الإجازة المُجرَّدة الإمام الجعبريُّ( ) مُطلقًا( ).
ومنعها الحافظ أبوالعلاء الهمذاني( ) وبالغ في ذلك وعدَّها من الكبائر( ).
قلتُ: لا تجوز الإجازة المُجرَّدة عن العرض والسَّماع مُطلقًا، ولا تُمنع كذلك مطلقًا؛ ولكنها تجوز إذا تحققت في القارئ الأهلية وأراد عُلُو السَّند وكثرة الطرق والمتابعة والاستشهاد، وأما إن كان من غير متابعة فقد توقَّف في ذلك ابن الجزري واشترط الأهلية ( ).
ويجب التنبيه إلى أن الأهلية لا تتحقق إلا بكثرة العَرْض على القراء المُتقنين.
يقول ابنُ الجزري في منجد المقرئين( ) ما نصُّه:
« وهل يجوز أن يُقرئ القرآن بما أُجيز لـهُ على أنواع الإجازة؟
جوَّز ذلك العلاَّمة الجعبريُّ مطلقًا، ومنعهُه الحافظ الحُجَّةُ أبوالعلاء الهمذاني، وجعلَهُ من أكبر الكبائر.
وعندي أنهُ لا يخلو: إما أن يكون تلا بذلك، أو سمعهُ، فأراد أن يُعلي السَّند أو يُكثِّر الطرق، فجعلها متابعة، أوْلا.
فإن كان؛ فجائز حسن، فعل ذلك العلاَّمة أبوحيَّان في كتاب « التجريد »، وغيره، عن أبي الحسن بن البخاري وغيره متابعة، وكذا فعل الشيخ الإمام تقيُّ الدين محمد بن أحمد الصائغ بـ « المُستنير » عن الشيخ كمال الدين الضرير عن السِّلفي، وممَّن أقرأ بالإجازة من غير متابعة الإمام أبومعشر الطبري والإمام الجعبري وغيرهما، وعندي في ذلك نظر، لكن لا بُدَّ من اشتراط الأهلية ». اهـ.
المبحث التاسع
الإجازات العآمة
الإجازة العامة أو الإجازة لغيرُ معيَّن بوصف العموم كأجزتُ المسلمين أو كُلِّ أحدٍ أو أهل زماني، وهي أحد أنواع الإجازات والتي لا يشترط على طالبها أي شرط للحصول عليها؛ لأن المقصود بها وصل الإسناد وتعميم الرواية.
ومن شأن هذه الإجازة أنها لا تُعطي لطالبها أي اعتبار أو إذن في الرواية أو تعاطي التدريس أو الوظائف العآمة مثل الفُتيا والقضاء كما هو الشأن في الإجازات العلمية( ). وقد جوَّز هذا النوع جماعة من أهل العلم ( ) سيأتي ذكرهم بعد قليل -إن شاء الله تعالى-، ومن أمثلة هذا النوع من الإجازات ما ذكرهُ ابن الجزري في خاتمة منظومته طيبة النشر:
وقد أجزتُها لكلِّ مُقرى كذا أجزتُ كُلَّ من في عصري( )
يقول ابن الناظم أحمد بن الجزري ( ): « أي أجاز الناظم تقبل اللهُ تعالى منهُ ورزقهُ العودُ إلى حرم الله تعالى وحرم رسول الله لكل من المُقرئين في جميع الأمصار والأعصار أن يروي عنهُ هذه الأرجوزة ويقريها ويقرى بها على رأي من أجاز ذلك، وكذلك أجاز أحسن اللهُ تعالى عاقبته ونفعنا بحياته وعلومه وجمع شملنا وشمله روايتها كل من في عصره إجازة عآمة كما لفظ بها مع علمه باختلاف العلماء في جواز الرواية بالإجازة العآمة، وأن المختار عندهم وعندهُ جوازها كما بيَّنهُ في كتاب البداية مع معالم الرواية ». اهـ( ).
ويقول أبوالقاسم النويري( ) في شرح الطيبة في بيان حُكمها ما نصُّهُ: « لا بأس بذكر حكم هذه الإجازة فأقول هذه هي النوع الثالث من أنواع الإجازة التسعة وهي الإجازة العامة فاختُلف في جوازها فجوزها الخطيبُ وفعلها أبوعبدالله بن منده فقال: أجزتُ لمن قال لا إله إلا الله وحكى الحازميُّ عمَّن أدركهُ من الحفاظ كأبي العلاء الهمذاني وغيره أنهم كانوا يميلون إلى الجواز وأجازها أيضًا أبوالفضل البغدادي وابن رُشد المالكي وأبوطاهر السِّلَفي وغيرُهُ ورجَّح الجواز ابن الحاجب وصحح النوويُّ وخلق كثير، جمَعها بعضُهم بكتابٍ رتَّبه على حروفِ المُعجم انتهى باختصار ». اهـ( ).
المبحث العاشر
الإجازة بأحد أوجه الرواية
لا يخفى على كل مُتخصِّص أن الأوجه عند القراءة إنما هي على سبيل التخيير، ولا يُلزم القاريءُ بالإتيانِ بها جميعًا عند التلقي بل يُجزئه أي وجه اختار ليصحَّ تلقِّيه ويتصل إسنادُهُ( ).
يقول القسطلانيُّ( ): « وإذا علمتَ هذا، فاعلم أن الخلاف إما أن يكون للشيخ كابن كثير، أو للراوي عنهُ كالبِّزي، أو للراوي عن واحد من رواة المشايخ أو من بعده وإن سَفَل، أو لم يكن كذلك، فإن كان للشيخ بكماله، أي: مما أجمعت عليه الرواياتُ والطرقُ عنهُ فقراءة، وإن كان للراوي عن الشيخ فهو رواية، وإن كان لمن بعد الرواة وإن سَفَل فطريق، وما كان على غير هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه كان وجهًا.
مثالُهُ: إثبات البسملة بين السورتين، قراءة ابن كثير وقراءة عاصم... ومثال الأوجه: كالثلاثة في البسملة بين السورتين لمن بَسمَل، ولا تقُل ثلاث قراءات ولا ثلاث روايات ولا ثلاث طرق وكالوقف على نحو العالمين ثلاثة أوجه، كما تقول: لكلٍ من الأزرق عن ورش وأبي عمرو وابن عامر، وكذا يعقوبُ بين السورتين ثلاث طرق، وللأزرق عن ورش في نحو (آدم)، و (آمن) ثلاث طرق، والفرقُ بين الخلافين أن خلاف القراءات والروايات والطرق خلافُ نصٍّ ورواية، فلو أخلَّ القارئُ بشيءٍ منهُ كان نقصًا في الرواية، فهو وضِدُّه واجب في إكمال الرواية، وخلاف الأوجه ليس كذلك، إذ هو على سبيل التخيير، فبأي وجهٍ أتى القارئُ أجزأ في تلك الرواية، ولا يكون إخلالاً بشيء منها، فهو وضدُّهُ جائزان في القراءة من حيث إن القارئ مُخيَّر في الإتيان بأيهما شاء، ولا احتياج إلى الجمع بينها في موضعٍ واحد، ومن ثَمَّ كان بعض ُ المُحققِّين لا يأخذ منها إلا بالأصحِّ الأقوى، ويجعل الباقي مأذونًا فيه، ... » إلخ ( ).
قلتُ: وهذا يُفسِّر ختم بعض القراء لأكثر من قارئ في مُدَّةٍ وجيزة كأسبوع أو ليلة( ).
ويحسن التنبيه إلى أن القارئ ينبغي لـهُ معرفة الأوجه الأُخرى للقراءة أو الرواية التي يقرأ بها ، وذلك بعرضها على الشيخ وسؤاله عنها في جزء من كتاب الله تعالى على أقل تقدير.
المبحث الحادي عشر
الإجازة في القرآن كُلِّه والعَرضُ لبعضه
إن الإجازةَ في القرآن كُلِّه وعرضُ التلميذ على الشيخ بعض القرآن سواء كان في القراءات السبع أم في العشر هو أحد أنواع الإجازات القرآنية الثلاث والتي لا تتأتى إلا لمن بلغ درجةً كبيرةً في الإتقان وهذا هو الشرط في مثل هذا النوع من الإجازات القرآنية.
وإنما أخذتُ هذا النوع من الإجازات القرآنية بعد استقرائي لتراجم بعض القُرَّاء.
يقول ابن الجزري في غاية النهاية (2/64) ترجمة محمد بن أحمد بن شهريار الأصبهاني في الأصل: « ودخل الرُّوم فلقيني بأنطاكية متوجهًا إليَّ إلى الشام فقرأ عليَّ للعشرة بعض القرآن وأجزتُه، ثم توجَّه إلى مدينة لارُندة فأقام بها يُقرئ الناس »اهـ.
وجاء في ترجمة الإمام المُحقِّق ابن الجزري أنهُ جمع القراءات للإثنى عشر بمضمن كُتُبٍ على الشيخ أبي بكر عبدالله بن الجُندي وللسبعة بمضمن العُنوان والتيسير والشاطبية على العلامة أبي عبدالله محمد بن الصائغ، والشيخ أبي محمد عبدالرحمن بن البغدادي فتوفيِّ ابنُ الجندي وهو قد وصل إلى قولـه تعالى: في النحل، فاستجازهُ فأجازهُ وأشهد عليه ثم توفي فأكمل على الشيخين المذكورين...... » إلخ( ).
المبحث الثاني عشر
الإجازة بالسَّماع
تقدَّم تعريفُ السَّماع( )، وخُلاصتُهُ هو سماع التلميذ أداء الشيخ أو من كان بحضرته، فيجيزُهُ الشيخُ بسماعه لهُ.
وهذا هو النوع الثاني من أنواع الإجازات القرآنية والتي لا تتأتى إلا لمن بلغ درجةً كبيرةً في الإتقان.
جاء في ترجمة محمد بن عبدالرحمن -أبي بكر الأصبهاني- ت سنة 296هـ، قال الإمام الذهبيُّ ما نصُّهُ: قال ابن عبدالرحيم: وصار جماعة من القراء إلى يونس ابن عبدالأعلى وأنا حاضر، فسألوه أن يقرئهم القرآن فامتنع، قال: احضِروا موَّاسًا ليقرأ، فاسمعوا قراءته عليَّ، وهي لكم إجازة، فقرأ عليه موَّاس القرآن كُلَّه في أيامٍ كثيرةٍ، وسمعتُ قراءته عليه... » اهـ( ).
وفي النشر لابن الجزري قال ما نصُّه: « وقرأ العُليمي ويحيى بنُ آدم عرْضًا فيما أطلقهُ كثير من أهل الأداء على أبي بكر شعبة بن عيَّاش بن سالم الحنَّاط
-بالنون- الأسدي الكوفي، وقال بعضُهم إنهما لم يعرضا عليه القرآن وإنما سمعا منهُ الحروف، والصحيح أن يحيى بنُ آدم روى عنه الحروف سماعًا وأن يحيى العُليمي عرض عليه القرآن » اهـ( ).
المبحث الثالث عشر
الإجازة بأحرف الخلاف -فقط -
إن الإجازة بأحرف الخلاف عرضًا أو سماعًا هي من المسائل الدقيقة التي لم يُعرِّج عليها إلا القليل من أهل العلم، ولعلَّ ما ذكرهُ ابن الجزري في تراجم بعض القُرَّاء، وفي منجد المقرئين ص54 لهو كافٍ في وقوع هذه المسألة وأن لها أصلاً عند بعض القراء، وهذه المسألة أعني: الإجازة بأحرف الخلاف تختلف عن مسألة الإجازة بالسَّماع إذ إن تلك بالقرآن كُلِّه سماعًا، وهذه بأحرف الخلاف فقط. وهذا هو النوع الثالث من أنواع الإجازات القرآنية والتي لا تتأتى إلا لمن بلغ درجةً كبيرةً في الإتقان، ولا يتحقق هذا إلا بكثرة العرض، إذ إن حُسن الأداء بكثرة العرض( ).
جاء في ترجمة أبي بكر بن مجاهد شيخ الصنعة وأول من سبَّع السبعة -ت324هـ- أنه روى الحروف سماعًا عن إسحاق بن أحمد الخزاعي( ).
وفي النشر: « قرأ أبوحمدون وشعيب على أبي زكريا يحيى بن آدم بن سليمان ابن خالد بن أسد الصلحي عرضًا في قول كثير من أهل الأداء، وقال بعضهم إنما قرأ عليه الحروف فقط والصحيح أن شعيبًا سمع منه الحروف، وأن أبا حمدون عرض عليه القرآن والله أعلم » اهـ( ).
وفي مُنجد المُقرئين ص54 قال ما نصُّه: « ولا يجوز لهُ أن يُقرئ إلا بما قرأ أو سمع، فإن قرأ الحروف المختلف فيها أو سمعها، فلا خلاف في جواز إقرائه القرآن العظيم بها بالشرط المتقدم، وهو: أن يكون ذاكرًا كيفية تلاوته به حال تلقِّيه من شيخه، مُستصحبًا ذلك، فإن شكَّ في شيء، فلا يستنكف أن يسأل رفيقه أو غيره ممن قرأ بذلك الكتاب، حتى يتحقَّق بطريق القطع أو غلبة الظن » اهـ.
المبحث الرابع عشر
التساهل والتشدد في الإجازة القرآنية
لا يخفى على ذي لُبٍّ أن هناك تسامحًا واضحًا في دفع الإجازة القرآنية، من بعض مقرئي هذا العصر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، وهذا التسامح أو التفريط في مثل هذا الأمر، أدى إلى دفعها لأشخاصٍ لا يعرفون الأحكام التجويدية الأساسية فضلاً على غيرها، ولربَّما كان صاحبها من أهل اللحن الجلي، والواقع يُصدِّقُ ذلك أو يُكذِّبُه،وهذا هو التسامح المقصود أو المعنيّ به، وألوان التسامح متعددة فمن ذلك مثلاً: قراءة روايةٍ أو أكثر في مُدَّةٍ يسيرةٍ ليلةٍ أو ثلاث ليال أو حولٍ من ذلك، مما يدلُّ على تسامُحٍ وتساهلٍ في الإقراء.
قال الإمام الذهبي في ترجمة محمد بن أحمد بن سعود، المعروف بابن صاحب الصلاة، المُتوفى سنة خمس وعشرين وستمائة، قال ابن الأبَّار: « لم آخُذْ عنهُ لتسمُّحه في الإقراء والإسماع، سامح اللهُ لـهُ ».
قال الذهبيُّ: « قلت وأنا رأيتُ لـهُ ما يدلُّ على تسمُّحه بخطه أن بعض القراءة قرأ عليه في ليلة واحدة ختمةً كاملةً برواية نافع » اهـ( ).
وجاء في ترجمة ابن الوثيق إبراهيم بن محمد أبوالقاسم الأندلسي الإشبيلي المتوفى سنة أربع وخمسين وستمائة: « أن عبدالله بن منصور المكين الأسمر دخل يومًا إلى الجامع الجيوشي بالإسكندرية فوجد شخصًا واقفًا وسط صحنه وهو ينظر إلى أبواب الجامع فوقع في نفس المكين الأسمر أنهُ رجل صالح.... فابتدأ عليه المكينُ الأسمر تلك الليلة الختمة بالقراءات السبع من أولها وعند طلوع الفجر إذا به يقولُ من « الجِنة والناس » فختم عليه الختمة جمعًا بالقراءات السَّبع في ليلةٍ واحدة »( ).
ومن ألوان التساهل في هذا المقام إقراء أكثر من شخص في وقتٍ واحد، وهذا وإن أجازهُ بعضُ أهل العلم كعلَم الدين السخاوي( )، إلا أنَّ فيه تساهلاً كبيرًا( ).
وضدُّ التساهل التشدُّد والعَنت ولـهُ أمثلة مبثوثة في كتب تراجم القُرَّاء على نحو ما: جاء في ترجمة محمد بن أحمد بن بضحان أبوعبدالله الدمشقي( ) المتوفى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة أنهُ كان يجلس للإقراء وهو في غاية التصميم لا يتكلمُ ولا يلتفتُ ولا يبصُقُ ولا يتنحنحُ وكذلك من عندهُ ويجلس القارئ عليه وهو يشيرُ إليه بالأصابع لا يدعَهُ يترك غُنَّةً ولا تشديدًا ولا غيَره من دقائق التجويد حتى يأخذهُ عليه ويردَّهُ إليه وإذا نسي أحدٌ وجهًا من وجوه القراءة يضربُ بيده على الحصير، فإن أفاق القارئُ ورجعَ إلى نفسه أمضاه لـهُ وإلا لا يزالُ يقول للقارئ ما فرغتَ حتى يعييَهُ فإذا عيَّ ردَ عليه الحرف ثم يكتبه عليه فإذا ختم وطلب الإجازة سألهُ عن تلك المواضع التي نسيها أو غلِط فيها في سائر الختمة فإن أجاب عنها بالصواب كتب لهُ الإجازة وإن نسي قال لـهُ أعدِ الختمة فلا أُجيزك على هذا الوجه وهكذا كان دأبُه على هذه الحال بحيث أنهُ لم يأذن لأحدٍ سوى اثنين هما السَّيفُ الحريري وابنُ نَمْلة حسب لا غير في جميع عُمُره مع كثرة مَن قرأ عليه وقصدَهُ من الآفاق » اهـ.
قال أبوعمرو الداني: « لم يمنعني من أن أقرأ على أبي طاهر( ) إلا أنهُ كان فظيعًا وكان يجلس للإقراء وبين يديه مفاتيح فكان ربما يضربُ بها رأس القارئ إذا لحن فخِفتُ ذلك فلم أقرأ عليه وسمعتُ منهُ كُتبَه »( ).
وقال أبوعمرو أيضًا في جامع البيان: « قال لي أبوالفتح: قال لي عبدالباقي، قال لي أبوالحسن: قرأتُ على أبي عمران بالرقة، ثم قدم بعد ذلك إلى حلب، فقرأتُ عليه ختمةً ثانيةً، وقلتُ له: إني أفتخر بالقراءة عليك، فشدِّد عليَّ غيري ممن يقرأُ عليك ليعرفوا منزلتي عندك، ففعل ذلك، فلم يختم عليه غيري بحلب » ا.هـ( ).
قلتُ: إنَّ التساهُلَ والتشدُّد هما طرفا نقيض في جميع الأمور، وخير الأمـور أواسطهـا، إذ لا يُفهم مما تقدم أنَّ عرض المبتدئ كعرض المُنتهي، ولا العرض بأحد أوجه الرواية داخل في هذا بل هو مأخوذ معمول به كمـا تقدم.
وإنما التساهلُ يقع في سرعة الإقراء مع عدم الإتقان وهذا ما أردتُ بيانه وهو المقصود، نبَّه بعضُ السابقين إلى خطورته.
وأما التشدُّد في الإجازة بمعنى الغِلظة في الإقراء كما تقدم عن بعضهم، أو المبالغة والتنطُّع في الإقراء للوصول إلى درجة الإتقان فهذا مذموم أيضًا.
المبحث الخامس عشر
إجازةُ صغيرُ السِّن
المقصودُ بصغير السِّن الذي لم يبلُغ الحُلُم، ولا أرى مانعًا من إجازة صغير السِّنِّ إذا كان أمينًا عاقلاً ديِّنًا، يُرى فيه النبوغُ والأهلية. جاء في ترجمة عبدالرحمن ابن مرهف بن عبدالله بن يحيى بن ناشرة الناشري الشافعي ت 661هـ.
قال ابن الجزري: حدثني شيخُنا أبوبكر بن أيدغدي الشمسي قال: حكى لنا شيخُنا الصائغ قال: لما وصلتُ في القراءات على شيخنا ابن ناشرة إلى سورة الفجر منَعنِي الختمَ كأنهُ استصغرني على الإجازة قال: فشقَّ ذلك عليَّ وجئتُ إلى شيخنا الكمال الضرير فعرفتُهُ فقال: إذا كان الغدُ وجلس الشيخُ خُذ بيدي إليه قال: فلما أصبحنا وجاء الشيخُ أتيتُ الكمال الضرير فأخذتُ بيده من موضعه إلى عند ابن ناشرة فتحادثا ساعةً ثم قال: لِم لمْ تدعْ هذا يختمُ فقال: يا سيدي الناسُ كثير وهذا صغير واللهُ يعلمُ متى ينقرض هؤلاء الذين قرءوا علينا قال: فأمسكَ الشيخُ الكمالُ بفخذيه وقال: اسمع نحن نُجيز من دبَّ ودرجَ عسى أن ينبُلَ منهم شخص ينفعُ الناس ونُذكر به وما يُدريك أن يكون هذا وأشار إليّ، قال: فواللهِ لقد كانت مُكاشفةً من الشيخ كمال الدين فإنه لم يبْق على وجه الأرض من أولئك الخلائق مَن يروي عنهما غيري » اهـ( ).
المبحث السادس عشر
الإجازة من المصحف
الأصلُ في عَرْض القرآن الكريم أن يكون حفظًا عن ظهر قلب، ولم يكن عرض القرآن الكريم من المصحف من عمل السابقين( ).
والذي يظهر لي والله أعلم جواز هذا النوع من الإجازات بشروط هي:
أولاً: عدم قدرة القارئ على الحفظ.
ثانيًا: إتقان القارئ وضبطه.
ثالثًا: الإفادة في الإجازة بأنه أُجيز بقراءته من المصحف مباشرةً.
رابعًا: يُمنع المجاز بهذه الطريقة من إجازة غيره فهي لـه بمثابة إجازة خاصة.
خامسًا: عدم فتح هذا النوع من الإجازة أمام عآمة الناس، والضرورات تُقدَّر بقدَرها.
سادسًا: أن يكون الطالب المجاز في بلدٍ أو مكانٍ يَقِلُّ أو يندُرُ فيه الحفظة لكتاب الله --.
المبحث السابع عشر
قواعد عآمة في الإجازات القرآنية
إن هناك قواعد عآمة مُستلخصةً من مجموعة إجازات قرآنية تكاد تتفقُ جميعُها على صيغةٍ واحدةٍ وأسلوبٍ متقاربٍ وهي:
1- أن الشيخ المجيز يكتبها ويوقعها ويؤرخها إن اقتضى الحالُ بخط يده صيانةً لها من التدليس والتزوير ودفعًا للظنون والشكوك ورفعًا للشبهات والأقاويل.
2- يلتمسُها الطالبُ متى أحسَّ بثبوت قدمه في الميدان العلمي من أُستاذه.
3- أنها تكونُ شفويةً كما تكون كتابيةً وهي الأغلب وقد يُجمعان فيُجيزه كتابةً وقولاً.
4- تختلف طولاً وقِصَرًا وقبْضًا وبسْطًا حسب العلاقة التي تربط الطرفين ووفقًا لحقيقة الشهادة العلمية التي تُعطى لحاملها.
5- قد يتحدث فيها معطيها عن شيوخه والإجازات الممنوحة لـه، وقد تخلو من ذلك تمامًا.
6- يتطرقُ مانحُها في بعض الأحيان إلى بعض الجوانب الخآصة بحياته كأسفاره ومنازله.
7- تصفُ الممنوحَ بالمؤهلات العلمية التي خوَّلتهُ ستحقاق هاته الشهادة.
8- تشتمل على ما أُجيز فيه طالبُها وتحتوي في الغالب على وصايا من الشيخ وتوجيهاتٍ ودعاء( ).
للامانة العلمية منقول....
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين وبعد :-
قرات هذا البحث - والمهم جدا لاهل الاختصاص - واحببت ان يطلع عليه المقرؤون والقراء من حاملي القران والمجازون بالقراءات القرانية لما فيه من فوائد جمة . واجتزأت منها المبحث الاول الى المبحث السابع عشر فيما يخص الاجازة والمجيز والمجاز ومن الله التوفيق...
الاجازة
التمهيــد
لقد عُني النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإقراء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم القرآن الكريم، كما عُني بتلقيه من جبريل --.
فقد تلقَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآن عن جبريل -صلى الله عليه وسلم- عرضًا وسماعًا كما قال تعالى:
أخرج البخاري في صحيحه( ) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قولـه تعالى: قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعالجُ من التنـزيل شدة، وكان مما يُحرِّك شفتيه... إلى قولـه: فأنزل الله تعالى ثم إنَّ علينا أن تقرأَهُ. فكان رسولُ الله بعد ذلك إذا أتاه جبريلُ استمع. فإذا انطلق جبريلُ قرأهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما قرأهُ.
وجاء في حديث فاطمة -رضي الله عنها- وهو في الصحيح( ) أن النبيأسرَّ إليها « أن جبريل كان يُعارضُنِي بالقرآن كُلَّ سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أَراهُ إلا حضر أجلي ».
وفي حديث أبي هريرة --( ) قال: « كان يعرض أي: [جبريل] على النبيِّ صلى الله عليه وسلم القرآن كُلَّ عامٍ مرَّةً، فعرَضَ عليه مرَّتين في العام الذي قبض فيه... ».
يؤخذ من آيات سورة القيامة والأحاديث المتقدمة، وما شابهها أن النبي أخذ القرآن الكريم مشافهةً، عرضًا وسماعًا على جبريل --، وهي أصل في هذا الباب( ).
إذ يُعرَّف العَرْض: بأنهُ قراءة الطالب على الشيخ، وهو أثبت وأوكد من السَّماع.
والسَّماع: هو التلقي من لفظ الشيخ، وهذا النوع -أعني السَّماع- لا يكفي في تأدية القرآن الكريم صحيحًا كما نزل، إذ ليس كُلُّ من سمع من لفظ الشيخ يقدِرُ على الأداء كهيئته، ولكن فصاحة الصحابة -- وطباعهم السليمة اقتضت قدرتهم على الأداء، كما سمعوه منه ، لأنه نزل بلغتهم( ).
قال أبوعمرو الداني( ): عَرْضُ القرآن على أهل القراءة المشهورين بالإمامة، المُختصين بالدراية؛ سُنَّة من السُّنن التي لا يسعُ أحدًا تركُها رغبةً عنها، ولابُدَّ لمن أراد الإقراء والتصدُّر منها.
والأصلُ في ذلك ما أجمع العلماء على قبولـه، وصحة وروده، وهو: عرض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل عام على جبريل عليه السلام، وعرضُهُ على أُبيِّ بن كعب بأمر الله لهُ بذلك، وعرضُ أُبيٍّ عليه، وعرضُ غيرُ واحدٍ من الصحابة على أُبيِّ، وعرضُ الصحابة بعضُهم على بعض، ثم عرض التابعين، ومن تقدَّم من أئمة المسلمين، جيلاً فجيلاً وطبقةً بعد طبقةٍ، إلى عصرنا هذا.
فكلُّ مُقرئٍ أهمل العرض، واجتزأ( ) بمعرفته، أو بما تعلَّم في المكتب من مُعلِّمه الذي اعتمادُهُ على المصحف، أو على الصحائف دون العرض، أو تمسَّك فيما يأخذ به ويُعلِّمهُ بما يظهر لهُ من جهة إعرابٍ أو معنىً أو لغةٍ، دون المروي عن أئمة القراءة بالأمصار المجتمع على إمامتهم، فمُبتدعٌ مذموم، مخالف لما عليه الجماعة من علماء المسلمين، تارك لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرَّاءَ القرآن من تلاوته بما عُلِّمه وأُقريء به، وذلك لا يوجد إلا عندما ينقلُهُ متواترًا، ويرويه مُتصلاً، فلا يُقلَّدُّ القراءةَ من تلك الصفة، ولا يُحتجُّ بأخذه » اهـ( ).
إن الإجازة القرآنية نوع من أنواع الإجازات العلمية المُتعدِّدة فهناك إجازات المُحدِّثين وهي الأصل في هذا العلم ومبدؤُه، وإجازات الفقهاء وإجازات القضاة وإجازات الخطَّاطين، وإجازات الشعراء، وإجازات الأطباء، بل إن هناك إجازاتٍ أخرى تقديريةً وتكريميةً بين العلماء بعضهم بعض، وبين العلماء والملوك والأمراء( ).
فشملت الإجازاتُ العلميةُ سائرَ العلوم الشرعية، وتجاوزتها بشكلٍ سريع إلى العلوم الإنسانية والمآدية.
وأصبحت الإجازة بحد ذاتها أمنية لدى الناس في نيلها والحصول عليها بل ويَلحُّون في طلبها( ).
المبحث الأول
تعريف الإجازة لغةً واصطلاحًا
لغةً: الجَوْزُ: وسطُ الشيء، والجوازُ: الشاةُ يُبيَّضُ وسطُها، والجَوْزاءُ نجم، سُميِّت بذلك لأنها تعترضُ في جَوْزِ السماء أي: في وسَطِها( ).
والإجازة: مصدر فعل أجاز، يتضمَّن عدة معانٍ منها:
أولاً: بمعنى قطع الطريق أو الموضع أو المسافة.
قال الليث: جَزْتُ الطريق جَوازَا، ومجازًا وجُؤوزًا، والمجاز: الموضع، وكذلك المجازة( ).
قال أبوعُبيد: قال الأصمعيُّ: جُزتُ الموضع: سِرتُ فيه، وأجزتُهُ: خلَّفتُهُ وقطعتُه، وأجزتُهُ: أنفذتُه ( )، قال امرؤ القيس:
فلما أَجزْنا ساحة الحيِّ وانتحى بنا بطنُ خَبْتٍ ذي حقِافٍ عَقْنقلِ
وقال أوسُ بنُ مغراء:
حتى يقالَ أَجيزُوا آل صَفوانا
أي: أنفِذُوهم يمدحُهُم بأنهم يُجيزون الحآج اهـ( ).
ثانيًا: بمعنى إنفاذ الأمر والرأي.
يُقال: « أجاز رأيه، أنفذه كجوَّزهُ، وفي الحديث: إني لا أُجيز اليوم على نفسي إلا شاهدًا مِنِّي »( ).
أي: لا أُنفِد ولا أُمضي( ).
ثالثًا: بمعنى: الجائزة أو العطية:
يُقال: أجاز يُجيزُهُ، إذا أعطاهُ.
وفي الحديث: « أَجيزوا الوفد بنحو ما كنتُ أُجيزُهم به »( ).
أي: أعطوهم الجائزة( ).
رابعًا: قيل: هو مشتق من جَواز الماء.
والجَوازُ: هو الماءُ الذي يُسقاةُ المالُ من الماشية والحرث ونحوه.
وقد استجزتُهُ فأجاز، إذا سقى أرضَك أو ماشيتك، وهو مَجازٌ، قال الشاعر:
وقالوا: فُقَيْمٌ قَيِّمُ الماءِ فاستَجِزْ عُبادةَ إن المُستجيزَ على قُتْرِِ( )
أي: على ناحيته( ).
والإجازة في علم القوافي هي: من عيوب القافية، كأن تكون القافية طاءً، والأُخرى دالًا، وهو ما يُسمى أيضًا بـ الإكفاء ( ).
والإجازة في اصطلاح المحدِّثين هي: إذن في الرواية لفظًا أو خطًا( ).
وأركانُها أربعة المُجيز، والمُجاز لـه، والمُجاز به، ولفظ الإجازة( ).
وألفاظها: الإذن والأهلية، ثم الإجازة والأهلية، ثم الإذن مُجرَّدًا، ثم الإجازة مُجرَّدة.
يقول ابن الجزري( ): « وأعلى ما يكتب للمجاز الإذن والأهلية، لا يُكتب إلا لذاك وذاك، ثم الإجازة والأهلية، ثم الإذن مُجرَّدًا، ثم الإجازة كذلك، ويجوز لهُ أن يقول: أجزتُ لـهُ أن يُقرئ بكذا عند تأهله لذلك »( ).
والإجازةُ في اصطلاح القُرَّاء هي: شهادةٌ من المُجيز للمُجاز لهُ في الإقراء.
وهذا التعريف [أي] الاصطلاحي إنما أخذتُهُ عن طريق الاستقراء، ولعلَّ ما أشار إليه السِّيوطيُّ في الإتقان (1/135-136) عند حديثه عن شرطية الإجازة في الإقراء وهو قولُه: « فجُعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمُجاز...»( ) اهـ.
المبحث الثاني
تاريخ الإجازة القرآنية
إنَّ الإجازة شهادةٌ من المُجيز [المقرئ] إلى المُجاز [القارئ]، وهذه الشهادة تزكية للقارئ على حُسن أدائه وجودة قراءته.
وإن الناظر في تزكية النبي لبعض أصحابه -- على حُسن قراءتهم وجودتها إنما هي إجازة لفظية من خير البريِّة لخير القرون، وهم أصحابه رضوان الله تعالى عليهم وهي أوثق بلا شك من الإجازة الكتابية وذلك باعتبار المُجيز والمُجاز لهُ.
وإليك بعض النصوص الدالة على ما أردتُ بيانهُ ومن ذلك:
1- ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما( ) عن ابن مسعود -- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خُذوا القرآن من أربعة، من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبيِ بن كعب ».
2- ما أخرجه الشيخان ( ) عن عبدالله بن مسعود -- قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم « اقرأ عليَّ القرآن، قلتُ: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال إني أحبُّ أن أسمعه من غيري ».
3- ما أخرجهُ الشيخان( ) أيضًا عن أنس بن مالك -- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأُبيّ إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: آلله سمَّاني لك؟ قال: آللهُ سمَّاك لي، قال فجعل أُبيّ يبكي » واللفظ لمسلم.
إن هذه الأحاديث بمجموعها لتدلُّ دلالةً واضحة بينةً على تزكية النبي لأولئك الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم لإجازته لهم إجازةً لفظية وشهادة عُظمى من خير مُجيز لخير مُجاز.
4- أخرج البغويُّ في شرح السُّنة( ): أن زيد بن ثابت -- شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل، وهي التي بيَّن فيها ما نُسخ وما بقي.
قال أبوعبدالرحمن السُّلمي هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئُ الناسَ بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبوبكر وعمر في جمعه، وولاهُ عثمان كتبة المصاحف أجمعين ». اهـ.
إذ يُستفاد من هذا النص ما يأتي:
أولاً: أن الاعتمادَ على زيد بن ثابت -- في بيان ما نُسخ وما بقي من كتاب الله تعالى بناءً على حضوره العرضة الأخيرة تُعدُّ هذه بمثابة إجازة سماع ( ) لزيد -- من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتماد الصحابة على زيد -- في كتبة المصاحف بعد وفاة رسول الله .
ثانيًا: عرضُ زيد -- القرآن على رسول الله شرفٌ ومزيةٌ ورفعةٌ لهُ -صلى الله عليه وسلم - على غيره من الصحابة أجمعين.
- لم أقف على نصٍ قاطع في بداية مصطلح الإجازة القرآنية، ولكن الذي يظهر واللهُ أعلم أن [ظهور هذا المصطلح جاء متزامنًا مع بداية التصنيف في القراءات القرآنية في القرن الثالث الهجري.
ويوضح ذلك ما جاء في ترجمة: محمد بن إدريس بن المنذر - أبوحاتم الرازي( ) المُتوفى سنة خمسٍ وسبعين ومائتين؛ إذ روى القراءة عنهُ إجازة الإمام أبوبكر بن مجاهد( ) المُتوفى سنة أربعٍ وعشرين وثلاثمائة.
وكما جاء أيضًا في ترجمة: عبدالصمد بن محمد بن أبي عمران هو أبومحمد الهمداني المقدسي( ) المتوفى سنة أربع وتسعين ومائتين؛ إذ روى عنهُ القراءة إجازةً أحمد بن يعقوب التائب( ) المُتوفى سنة أربعين وثلاثمائة]( ).
المبحث الثالث
الغرض من الإجازة القرآنية
إنَّ مما لا شك فيه أن طلب السند في قراءةٍ صحيحة إلى رسول الله أمر محمود شرعًا، كيف لا وقد جاء عن بعض السلف -يرحمهم الله تعالى- الرحلة في طلب الحديث( )، أفلا تكون الرحلة في طلب سندٍ صحيحٍ عن رسول الله في قراءة صحيحة أمرًا محمودًا، بل إن صاحبها مأجور مشكور إن شاء الله تعالى.
ولكن يعيبُ في هذا الشأن طلب الإجازة القرآنية من غير مُتقنٍ فيتعلَّق صاحبُها بالسَّند، دون القراءة الصحيحة، أو بعبارة أخرى تكون عينهُ الأولى على المُقرئ والعينُ الأخرى على الإجازة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى( ).
ويجب التنبيه: إلى أن الإجازة القرآنية طريق لإتقان قراءة القرآن الكريم، ولكنها ليست شرطًا فيه، كما أنها ليست شرطًا للتصدُّر للإقراء -كما سيأتي إن شاء الله تعالى-( )، إذ كم من حاصلٍ على إجازة قرآنية في قراءة أو أكثر؛ وقراءتُهُ يشوبها قليل أو كثير من الُّلحون الجلية فضلاً على الُّلحون الخفية.
المبحث الرابع
شروط الإجازة القرآنية
إن هناك أمورًا مشتركةً بين شروط القارئ والمقرئ وبين المُجيز والمُجاز لـهُ. وإن كان مما لا شك فيه أنه ليس كل من أقرأ أو أجاز صحَّ ذلك منه، ولكن كل مُجيز مقرءًا في الغالب وليس كل مقرئ مُجيزًا.
وإن هناك شُروطًا لابد منها في صحة الإجازة القرآنية وهي:
أولاً: شروط مشتركة بين المُجيز والمجاز لـه:
ذكر بعضُ أهل العلم شروطًا للمقرئ تصلُح أن تكون للمجيز والمجاز لـه، وهي بالجملة: أن يكون مسلمًا عاقلاً بالغًا ثقًة مأمونًا ضابطًا خاليًا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة( ).
ثانيًا: شروط خاصة بالمُجيز:
إن هناك شروطًا مُختصة بالمُقرئ بالإضافة إلى ما تقدَّم وهي:
أولاً: العلمُ الشرعي.
ويشملُ هذا النوع الفقه في الدين وهو ما يصلُحُ به أمر دينه أولاً، ولا بأس من الزيادة في التفقة، بحيث إنهُ يرشد طلبته وغيرهم، إذا وقع لهم شيء( ).
ثانياً: معرفته لأحكام التجويد خاصةً إذ به يُعرف وبعلمه يتصدَّر.
يقولُ مكي بن أبي طالب في الرعاية( ): « والمقرئ إلى جميع ما ذكرناهُ في كتابنا هذا أحوج من القارئ؛ لأنه إذا علمه علَّمه، وإذا لم يعلمه لم يُعلِّمه، فيستوي في الجهل بالصَّواب في ذلك القارئُ والمقرئُ، ويَضِلُّ القارئُ بضلال المقرئ، فلا فضل لأحدهما على الآخر.
فمعرفةُ ما ذكرنا لا يسعُ من انتصب للإقراء جهلُهُ، وبه تكمُلُ حالُه....
إلى قولـه: فلا يرضينَّ امرؤ لنفسه في كتاب الله جلَّ ذكرُه وتجويد ألفاظه، إلا بأعلى الأُمور، وأسلمها من الخطأ والزَّلل، والله المُوفِّق للصواب » اهـ( ).
ويقول أبوعمرو الداني: « وقد أغفل الناسُ معرفةَ التجويد، وتهاونوا بتفقد التلاوة، حتى صار الغالب على طالبي القراءة ترك استعمال ذلك والأخذ به، ووجدوا من المُتصدِّرين من يُسهِّل لـهم فيه، ويُرخِّص لهم في تركه والأخذ به، فجرتْ على ذلك عادتهم، وتحكَّمتْ عليه طباعُهُم، وقد كان لتجويد التلاوة، وتحقيق القراءة، وأداء ذلك على حقه، واستعمال النطق به على واجبه، في قديم الدَّهر عند الأئمة خطر، وعند جميع المُتصدِّرين من المشيخة بال، لكن بدروس العلم، وذهاب أهله، وغلبة الجهل، وكثرة منتحليه، أُضرب عن ذلك، واستُخِفَّ به، واستُجيز غيرُهُ، واستُعمل ضدُّه، فدُرِستْ آثارُهُ ودُثِرتْ أعلامُهُ »( ) اهـ.
قلت: إن معرفته لأحكام التجويد تشملُ مخارج الحروف وصفاتها، فضلاً على أحكام التجويد الأخرى.
ثالثًا: معرفتُهُ لعلم الوقف والابتداء والرسم والضبط والفواصل وهو فنُّ عدد الآيات( )، إذ بهذه العلوم يُعرف المقرئُ من غيره.
يقول السيوطي( ) في الإتقان: « ومن ثمَّ اشترط كثير من الخلف على المُجيز أن لا يجيز أحدًا إلا بمعرفته الوقف والابتداء »( ) اهـ.
ويقول أبوبكر المَرْعشي( ) في جُهد المُقل: « وليكُن أيضًا عالَماً برسم المصحف ليُنبِّه المُتعلِّم عليه، إذ قد لا يُساوي رسمُها التَّلُّفظَ، ولا يُقاس رسمُها على الخط العربي.... وبيانُه في كتب رسم المصاحف مثل: المُقنع للداني، والرائية للشاطبي »( ) اهـ.
« وأما علم( ) العدد فلأن بعض القراء زاد على رسم الخط ستين ياءً في رؤوس الآي، وبعضُهم أمال رؤوسَ الآي من بعض السُّور، وبعضٌ من أصحاب الأزرق عن ورش رقَّق ما غلَّظهُ من اللاَّماتِ الواقعة في رؤوس الآي الممالة، فاحتيج إلى معرفة الفواصل من غيرها من موطنه إذا كان أمرًا توقيفيًا لا مجال للاجتهاد فيه... »( ) إلخ.
رابعًا: تحصيلُه طرفًا من علوم القرآن الكريم والتفسير( ):
خامسًا: العلمُ بأسانيد القُرَّاء وطرقهم ورواياتهم( ):
للسلف يرحمهم الله تعالى كلام نفيس في أهمية السَّند وأنه من الدِّين.
يقول سفيانُ الثوري( ) -يرحمه الله تعالى-: « الإسنادُ سلاحُ المؤمن، إذا لم يكن معهُ سلاح ، فبأي شيء يقاتل؟ »( ) اهـ.
ويقول عبدالله بن المبارك( ) -يرحمه الله تعالى-: « الإسناد من الدِّين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء »( ) اهـ.
قلت: إن معرفة المقرئ لأسانيد القراء وطرق الكتاب المقروء بمضمنه ورواياته يحميه من الخلط والترتيب بين الطرق والروايات، وإسناد قراءةٍ إلى أخرى، إذ يُعاب على أكثر القراء عدم علمهم بالأسانيد كما أشار إلى ذلك ابن الجزري( ).
ويقول أيضًا: « ولابُدَّ للمقرئ من أَنَسةٍ بحال الرِّجال والأسانيد، مؤتَلفها ومُختَلفها، وجَرحها وتعديلها، ومُتْقنَها ومُغَفَلها، وهذا من أهمِّ ما يُحتاج إليه، وقد وقع لكثير من المتقدمين في أسانيد كتبهم أوهام كثيرة، وغلَطاتٌ عديدةٌ، من إسقاط رجالٍ، وتسميةِ آخرين بغير أسمائهم، وتصاحيف، وغير ذلك »( ) اهـ.
ويقول الصفاقسيُّ( ) في غيث النفع: « علم الأسانيد وهو الطرق المُوصلةُ إلى القرآن وهو من أعظم ما يُحتاج إليه لأن القرآن سنة متبعة ونقل محض فلابُدَّ من إثباتها وتواترها ولا طريق إلى ذلك إلا بهذا الفن»( ) اهـ.
ويقول أيضًا: « إذ لابُدَّ لكل من قرأ بمضمَّن كتاب أن يعرف طرقه ليسلم من التركيب... ومن أخرج عن طرق كتابه فهو على جهة الحكاية وتتميم الفائدة »( ).
سادسًا: يلزم المقرئ المُجيز حفظ كتابٍ حاوٍ لما يُقرئ به من القراءات أصولاً وفرشًا لئلا يُداخلُهُ الوهم والغلط.
يقول ابن الجزري في منجد المقرئين: « ويلزمُهُ -أيضًا- أن يحفظ كتابًا مشتملاً على ما يُقرئُ به من القراءات أصولاً وفرشًا، وإلا داخَلَهُ الوهم والغلط في كثير، وإن أقرأ بكتاب وهو غير حافظٍ لـهُ، فلابُدَّ أن يكون ذاكرًا كيفيةَ تلاوته به حال تلقِّيه من شيخه، مُستصحبًا ذلك، فإن شكَّ في شيءٍ فلا يستنكف أن يسأل رفيقَه أو غيرهُ مِمَّن قرأ بذلك الكتاب، حتى يتحقق بطريق القطع أو غلبةِ الظن... إلخ »( ).
سابعًا: أن لا يُقرئَ إلا بما قرأ أو سمع:
يقول ابن الجزري: « ولا يجوز لـه أن يُقرئَ إلا بما قرأ أو سمع، فإن قرأ الحروف المختلف فيها أو سمعها، فلا خلاف في جواز إقرائه القرآن العظيم بها، بالشرط المُتقدِّم، وهو أن يكون ذاكرًا... » إلخ( ).
ثامنًا: العلم باللُّغة العربية( ).
إن تحصيل المقرئ المُجيز جانبًا من النحو والصرف مهم جدًا في توجيه ما يقعُ لـه من القراءات القرآنية »( ) اهـ.
المبحث الخامس
الإشهاد على الإجازة
الإشهادُ على الإجازة عند الشيخِ مُهمةٌ في توثيق الإجازة وثبوتها إذ إن الشهادة في دين الله مُعتبرة، بها تُقام الحُدودُ، وبها تُرفع المظالم.
والإشهادُ على الإجازة تكون بحضور من هُم في طبقة الشيخ ما أمكن ذلك، أو من أحد تلاميذه، أو من غيرهم مِمَّن هم من أهل الثقة والعدالة.
يقول ابن الجزري في منجد المُقرئين ص(67): « وأما ما جرت به العادةُ من الإشهاد على الشيخ بالإجازة والقراءة فحسنٌ يرفعُ التُّهمة، ويُسكِنُ القلبَ، وأمرُ الشهادة يتعلَّقُ بالقارئ يُشهد على الشيخ من يختار، والأحسن أن يُشهد أقرانَه النجباء من القراء المُنتهين؛ لأنهُ أنفع لهُ حال كِبَرِه » اهـ.
ومن الشواهد على الإشهاد على الإجازة: ما ذكره ابن الجزري في ترجمة محمد ابن عبدالرحمن بن علي بن أبي الحسن شمس الدين بن الصائغ الحنفي، ت776هـ ما نصُّه: « فقرأتُ عليه فلما أن ختمتُ عليه الختمة الثانية وكتب لي الإجازة بخطه سألتُه أن يذهب إلى شيخنا جمال الدين عبدالرحيم الأَسنوي شيخ الشافعية فذهب إليه وهو بالمدينة الناصرية من القاهرة فأشهده وما كان شيخُنا الأَسنوي يعلمُ أني أقرأُ القراءاتِ فقال لـهُ: والقراءاتِ أيضًا، فقال وغيرَها من العلوم » اهـ( ).
ومما جاء في الإشهاد على الإجازة أيضًا ما ذكرهُ ابن الجزري في ترجمة القاضي محب الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية - ت سنة 708هـ: « قلت: وقرأتُ عليه جمعًا من البقرة إلى قولـه "ختم الله" وأجازني وشهد في أجائزي » اهـ( ).
». اهـ( ).
قلتُ: إن الإشهاد على الإجازة ليس شرطًا في صحتها ولكنه زيادةٌ في التوثق والتثبُّت، وهو نمط معروف معمول به في الإجازات القرآنية في بعض البلاد الإسلامية، وخاصة في بلاد المغرب العربي.
يقول الدكتور محمد النبهان: « وأسلوب هذه الإجازات يأتي على الشكل التالي: فبعد الافتتاحية المُطوَّلة يُحدِّد الأستاذُ اسمه واسم التلميذ المجاز ثم يذكر أن التلميذ عرض عليه القرآن الكريم بقراءة نافع أو في قراءات الأئمة السبعة وعرض عليه أيضًا المُتون الدراسية المُشار إليها، فيشهد المعلمُ بعد ذلك بأن المُمتحِنَ أدَّى ذلك على وجه المطلوب ويعقب بذكر إجازته فيما استظهره بين يديه، ويتوسَّعُ في ذكر أسانيده للقرآن الكريم والمعروضات الأُخرى. وإثر تاريخ الإجازة يأتي توقيع الأستاذ فيُزكي إمضاءهُ الحاضرون من العلماء والأشراف بتوقيعاتهم كذلك وأخيرًا قاضي البلد بإمضائه أيضًا » اهـ( ).
المبحث السادس
هل الإجازة شرط في الإقراء؟
إن عدم وجود إجازةٍ علمية عند شيخ من المشايخ ليست دليلاً على هبوط مستواه العلمي، فما أكثر من ارتفعت سمعتهم العلميةُ وهم لم تُسعِفهم الظروف لأخذ إجازاتٍ علميةً من مشائخهم أو لم يُذكر عنهم ذلك.
وهي بذلك تُشبه الشهاداتِ العلميةَ المُتخصصة في الوقت الحاضر، والتي لا يعني الحصول عليها أن حاملها لا يُشق لهُ غبار في تخصصه، لأنها أحيانًا تكون غير دقيقة أو لا تُمثِّلُ الواقع العلمي للشخص الحاصل عليها( ).
يقول السيوطي في الإتقان: « الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدِّي للإقراء والإفادة، فمن علِم من نفسه الأهلية جاز لـه ذلك وإن لم يُجْزهُ أحد، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح، وكذلك في كل علم وفي الإقراء والإفتاء، خلافًا لما يتوهَّمُهُ الأغبياء من اعتقاد كونه شرطًا، وإنما اصطلح الناسُ على الإجازة لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالبًا من يُريد الأخذ عنهُ من المُبتدئين ونحوهم، لقصور مقامهم عن ذلك.
والبحث عن الأهلية قبل الأخذ شرط، فجُعلت الإجازةُ كالشهادة من الشيخ للمجاز بالأهلية » اهـ( ).
المبحث السابع
أخذ المال على الإجازة
إن أخذ المقرئ المال على الإجازة القرآنية لا بأس بذلك والله أعلم ما لم يشترط( )؛ وأما إن اشترط أخذ المال على الإجازة سواء كان قبل الإجازة أم بعدها، فقد نقل السيوطي الإجماع على عدم جواز ذلك.
قال في الإتقان: « ما اعتادهُ كثير من مشايخ القُراء من امتناعهم من الإجازة إلا بأخذ مالٍ في مقابلها لا يجوز إجماعًا، بل إن علم أهليته وجب عليه الإجازة أو عدمِها حرُم عليه، وليست الإجازة مما يقابل بالمال فلا يجوز أخذهُ عنها ولا الأجُرةُ عليها ». اهـ.( ).
قلتُ: وأخذُ المال على الإجازة لا يمنع من صحتها، ولا يقدح سندها.
قال الإمام الذهبيُّ في ترجمة محمد بن زين الدين أبوحامد الهُذلي المقرئ الضرير المُتوفى سنة أربع وثمانين وستمائة ما نصُّه: « وحدَّثني بهاء الدين محمد بن علي المقرئ أنهُ سمع الوحيد يقول: امتنع الصائنُ أن يكتب لِيَ الإجازة، إلا أن أُعطيهُ جوْخةَ( )، فما تهيأَ ذلك، فتشفَّعتُ إليه فغضِبَ وحلفَ لا أُجيزك إلا بخُلْعةٍ( ) وبَغلة، قال: فسكتُّ عن طلب الإجازة.
قلتُ: وثق القراءُ بقول وحيد وبمعرفته، وأخذوا عنهُ، وإنما فائدة الإجازة معرفة الإسناد، وإسناد المنتجب معروف مُتَّصل ». اهـ( ).
وأما تورُّع المقرئ عن أخذ شيء من المال لإجازته وإقرائه فهو الأحسن والأكمل.
قال الذهبي: قال أحمد بن عبدالله العجلي: ثنا أبي، قال حمزة كان سَنةً بالكوفة وسَنَةً بحُلْوان، فختم عليه رجل من أهل حُلْوان من مشاهيرهم، فبعث إليه بألف درهم، فقال لابنه: قد كنتُ أظن لك عقلاً، أفآخُذُ على القرآن أجرًا، أرجو على هذا الفردوس ». اهـ( )( ).
المبحث الثامن
الفرقُ بين الإجازة المقرونة بالعرض والسَّماع
والإجازة المجرَّدة عنهما
إن أعلى درجات الإجازة القرآنية هي تلك المقرونة بالعرض والسَّماع، وثانيها التي تكون بالعرض وحدُه وهي أكثرها وثالثها تكون بالسماع وحدهُ وهي أقلها.
ولم أقف على خلافٍ في جواز هذه الأنواع الثلاثة، ولكنَّ الخلافَ حاصل في الإجازة المُجرَّدة عنهما أي [العرض والسماع].
ولقد جوَّز الإجازة المُجرَّدة الإمام الجعبريُّ( ) مُطلقًا( ).
ومنعها الحافظ أبوالعلاء الهمذاني( ) وبالغ في ذلك وعدَّها من الكبائر( ).
قلتُ: لا تجوز الإجازة المُجرَّدة عن العرض والسَّماع مُطلقًا، ولا تُمنع كذلك مطلقًا؛ ولكنها تجوز إذا تحققت في القارئ الأهلية وأراد عُلُو السَّند وكثرة الطرق والمتابعة والاستشهاد، وأما إن كان من غير متابعة فقد توقَّف في ذلك ابن الجزري واشترط الأهلية ( ).
ويجب التنبيه إلى أن الأهلية لا تتحقق إلا بكثرة العَرْض على القراء المُتقنين.
يقول ابنُ الجزري في منجد المقرئين( ) ما نصُّه:
« وهل يجوز أن يُقرئ القرآن بما أُجيز لـهُ على أنواع الإجازة؟
جوَّز ذلك العلاَّمة الجعبريُّ مطلقًا، ومنعهُه الحافظ الحُجَّةُ أبوالعلاء الهمذاني، وجعلَهُ من أكبر الكبائر.
وعندي أنهُ لا يخلو: إما أن يكون تلا بذلك، أو سمعهُ، فأراد أن يُعلي السَّند أو يُكثِّر الطرق، فجعلها متابعة، أوْلا.
فإن كان؛ فجائز حسن، فعل ذلك العلاَّمة أبوحيَّان في كتاب « التجريد »، وغيره، عن أبي الحسن بن البخاري وغيره متابعة، وكذا فعل الشيخ الإمام تقيُّ الدين محمد بن أحمد الصائغ بـ « المُستنير » عن الشيخ كمال الدين الضرير عن السِّلفي، وممَّن أقرأ بالإجازة من غير متابعة الإمام أبومعشر الطبري والإمام الجعبري وغيرهما، وعندي في ذلك نظر، لكن لا بُدَّ من اشتراط الأهلية ». اهـ.
المبحث التاسع
الإجازات العآمة
الإجازة العامة أو الإجازة لغيرُ معيَّن بوصف العموم كأجزتُ المسلمين أو كُلِّ أحدٍ أو أهل زماني، وهي أحد أنواع الإجازات والتي لا يشترط على طالبها أي شرط للحصول عليها؛ لأن المقصود بها وصل الإسناد وتعميم الرواية.
ومن شأن هذه الإجازة أنها لا تُعطي لطالبها أي اعتبار أو إذن في الرواية أو تعاطي التدريس أو الوظائف العآمة مثل الفُتيا والقضاء كما هو الشأن في الإجازات العلمية( ). وقد جوَّز هذا النوع جماعة من أهل العلم ( ) سيأتي ذكرهم بعد قليل -إن شاء الله تعالى-، ومن أمثلة هذا النوع من الإجازات ما ذكرهُ ابن الجزري في خاتمة منظومته طيبة النشر:
وقد أجزتُها لكلِّ مُقرى كذا أجزتُ كُلَّ من في عصري( )
يقول ابن الناظم أحمد بن الجزري ( ): « أي أجاز الناظم تقبل اللهُ تعالى منهُ ورزقهُ العودُ إلى حرم الله تعالى وحرم رسول الله لكل من المُقرئين في جميع الأمصار والأعصار أن يروي عنهُ هذه الأرجوزة ويقريها ويقرى بها على رأي من أجاز ذلك، وكذلك أجاز أحسن اللهُ تعالى عاقبته ونفعنا بحياته وعلومه وجمع شملنا وشمله روايتها كل من في عصره إجازة عآمة كما لفظ بها مع علمه باختلاف العلماء في جواز الرواية بالإجازة العآمة، وأن المختار عندهم وعندهُ جوازها كما بيَّنهُ في كتاب البداية مع معالم الرواية ». اهـ( ).
ويقول أبوالقاسم النويري( ) في شرح الطيبة في بيان حُكمها ما نصُّهُ: « لا بأس بذكر حكم هذه الإجازة فأقول هذه هي النوع الثالث من أنواع الإجازة التسعة وهي الإجازة العامة فاختُلف في جوازها فجوزها الخطيبُ وفعلها أبوعبدالله بن منده فقال: أجزتُ لمن قال لا إله إلا الله وحكى الحازميُّ عمَّن أدركهُ من الحفاظ كأبي العلاء الهمذاني وغيره أنهم كانوا يميلون إلى الجواز وأجازها أيضًا أبوالفضل البغدادي وابن رُشد المالكي وأبوطاهر السِّلَفي وغيرُهُ ورجَّح الجواز ابن الحاجب وصحح النوويُّ وخلق كثير، جمَعها بعضُهم بكتابٍ رتَّبه على حروفِ المُعجم انتهى باختصار ». اهـ( ).
المبحث العاشر
الإجازة بأحد أوجه الرواية
لا يخفى على كل مُتخصِّص أن الأوجه عند القراءة إنما هي على سبيل التخيير، ولا يُلزم القاريءُ بالإتيانِ بها جميعًا عند التلقي بل يُجزئه أي وجه اختار ليصحَّ تلقِّيه ويتصل إسنادُهُ( ).
يقول القسطلانيُّ( ): « وإذا علمتَ هذا، فاعلم أن الخلاف إما أن يكون للشيخ كابن كثير، أو للراوي عنهُ كالبِّزي، أو للراوي عن واحد من رواة المشايخ أو من بعده وإن سَفَل، أو لم يكن كذلك، فإن كان للشيخ بكماله، أي: مما أجمعت عليه الرواياتُ والطرقُ عنهُ فقراءة، وإن كان للراوي عن الشيخ فهو رواية، وإن كان لمن بعد الرواة وإن سَفَل فطريق، وما كان على غير هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه كان وجهًا.
مثالُهُ: إثبات البسملة بين السورتين، قراءة ابن كثير وقراءة عاصم... ومثال الأوجه: كالثلاثة في البسملة بين السورتين لمن بَسمَل، ولا تقُل ثلاث قراءات ولا ثلاث روايات ولا ثلاث طرق وكالوقف على نحو العالمين ثلاثة أوجه، كما تقول: لكلٍ من الأزرق عن ورش وأبي عمرو وابن عامر، وكذا يعقوبُ بين السورتين ثلاث طرق، وللأزرق عن ورش في نحو (آدم)، و (آمن) ثلاث طرق، والفرقُ بين الخلافين أن خلاف القراءات والروايات والطرق خلافُ نصٍّ ورواية، فلو أخلَّ القارئُ بشيءٍ منهُ كان نقصًا في الرواية، فهو وضِدُّه واجب في إكمال الرواية، وخلاف الأوجه ليس كذلك، إذ هو على سبيل التخيير، فبأي وجهٍ أتى القارئُ أجزأ في تلك الرواية، ولا يكون إخلالاً بشيء منها، فهو وضدُّهُ جائزان في القراءة من حيث إن القارئ مُخيَّر في الإتيان بأيهما شاء، ولا احتياج إلى الجمع بينها في موضعٍ واحد، ومن ثَمَّ كان بعض ُ المُحققِّين لا يأخذ منها إلا بالأصحِّ الأقوى، ويجعل الباقي مأذونًا فيه، ... » إلخ ( ).
قلتُ: وهذا يُفسِّر ختم بعض القراء لأكثر من قارئ في مُدَّةٍ وجيزة كأسبوع أو ليلة( ).
ويحسن التنبيه إلى أن القارئ ينبغي لـهُ معرفة الأوجه الأُخرى للقراءة أو الرواية التي يقرأ بها ، وذلك بعرضها على الشيخ وسؤاله عنها في جزء من كتاب الله تعالى على أقل تقدير.
المبحث الحادي عشر
الإجازة في القرآن كُلِّه والعَرضُ لبعضه
إن الإجازةَ في القرآن كُلِّه وعرضُ التلميذ على الشيخ بعض القرآن سواء كان في القراءات السبع أم في العشر هو أحد أنواع الإجازات القرآنية الثلاث والتي لا تتأتى إلا لمن بلغ درجةً كبيرةً في الإتقان وهذا هو الشرط في مثل هذا النوع من الإجازات القرآنية.
وإنما أخذتُ هذا النوع من الإجازات القرآنية بعد استقرائي لتراجم بعض القُرَّاء.
يقول ابن الجزري في غاية النهاية (2/64) ترجمة محمد بن أحمد بن شهريار الأصبهاني في الأصل: « ودخل الرُّوم فلقيني بأنطاكية متوجهًا إليَّ إلى الشام فقرأ عليَّ للعشرة بعض القرآن وأجزتُه، ثم توجَّه إلى مدينة لارُندة فأقام بها يُقرئ الناس »اهـ.
وجاء في ترجمة الإمام المُحقِّق ابن الجزري أنهُ جمع القراءات للإثنى عشر بمضمن كُتُبٍ على الشيخ أبي بكر عبدالله بن الجُندي وللسبعة بمضمن العُنوان والتيسير والشاطبية على العلامة أبي عبدالله محمد بن الصائغ، والشيخ أبي محمد عبدالرحمن بن البغدادي فتوفيِّ ابنُ الجندي وهو قد وصل إلى قولـه تعالى: في النحل، فاستجازهُ فأجازهُ وأشهد عليه ثم توفي فأكمل على الشيخين المذكورين...... » إلخ( ).
المبحث الثاني عشر
الإجازة بالسَّماع
تقدَّم تعريفُ السَّماع( )، وخُلاصتُهُ هو سماع التلميذ أداء الشيخ أو من كان بحضرته، فيجيزُهُ الشيخُ بسماعه لهُ.
وهذا هو النوع الثاني من أنواع الإجازات القرآنية والتي لا تتأتى إلا لمن بلغ درجةً كبيرةً في الإتقان.
جاء في ترجمة محمد بن عبدالرحمن -أبي بكر الأصبهاني- ت سنة 296هـ، قال الإمام الذهبيُّ ما نصُّهُ: قال ابن عبدالرحيم: وصار جماعة من القراء إلى يونس ابن عبدالأعلى وأنا حاضر، فسألوه أن يقرئهم القرآن فامتنع، قال: احضِروا موَّاسًا ليقرأ، فاسمعوا قراءته عليَّ، وهي لكم إجازة، فقرأ عليه موَّاس القرآن كُلَّه في أيامٍ كثيرةٍ، وسمعتُ قراءته عليه... » اهـ( ).
وفي النشر لابن الجزري قال ما نصُّه: « وقرأ العُليمي ويحيى بنُ آدم عرْضًا فيما أطلقهُ كثير من أهل الأداء على أبي بكر شعبة بن عيَّاش بن سالم الحنَّاط
-بالنون- الأسدي الكوفي، وقال بعضُهم إنهما لم يعرضا عليه القرآن وإنما سمعا منهُ الحروف، والصحيح أن يحيى بنُ آدم روى عنه الحروف سماعًا وأن يحيى العُليمي عرض عليه القرآن » اهـ( ).
المبحث الثالث عشر
الإجازة بأحرف الخلاف -فقط -
إن الإجازة بأحرف الخلاف عرضًا أو سماعًا هي من المسائل الدقيقة التي لم يُعرِّج عليها إلا القليل من أهل العلم، ولعلَّ ما ذكرهُ ابن الجزري في تراجم بعض القُرَّاء، وفي منجد المقرئين ص54 لهو كافٍ في وقوع هذه المسألة وأن لها أصلاً عند بعض القراء، وهذه المسألة أعني: الإجازة بأحرف الخلاف تختلف عن مسألة الإجازة بالسَّماع إذ إن تلك بالقرآن كُلِّه سماعًا، وهذه بأحرف الخلاف فقط. وهذا هو النوع الثالث من أنواع الإجازات القرآنية والتي لا تتأتى إلا لمن بلغ درجةً كبيرةً في الإتقان، ولا يتحقق هذا إلا بكثرة العرض، إذ إن حُسن الأداء بكثرة العرض( ).
جاء في ترجمة أبي بكر بن مجاهد شيخ الصنعة وأول من سبَّع السبعة -ت324هـ- أنه روى الحروف سماعًا عن إسحاق بن أحمد الخزاعي( ).
وفي النشر: « قرأ أبوحمدون وشعيب على أبي زكريا يحيى بن آدم بن سليمان ابن خالد بن أسد الصلحي عرضًا في قول كثير من أهل الأداء، وقال بعضهم إنما قرأ عليه الحروف فقط والصحيح أن شعيبًا سمع منه الحروف، وأن أبا حمدون عرض عليه القرآن والله أعلم » اهـ( ).
وفي مُنجد المُقرئين ص54 قال ما نصُّه: « ولا يجوز لهُ أن يُقرئ إلا بما قرأ أو سمع، فإن قرأ الحروف المختلف فيها أو سمعها، فلا خلاف في جواز إقرائه القرآن العظيم بها بالشرط المتقدم، وهو: أن يكون ذاكرًا كيفية تلاوته به حال تلقِّيه من شيخه، مُستصحبًا ذلك، فإن شكَّ في شيء، فلا يستنكف أن يسأل رفيقه أو غيره ممن قرأ بذلك الكتاب، حتى يتحقَّق بطريق القطع أو غلبة الظن » اهـ.
المبحث الرابع عشر
التساهل والتشدد في الإجازة القرآنية
لا يخفى على ذي لُبٍّ أن هناك تسامحًا واضحًا في دفع الإجازة القرآنية، من بعض مقرئي هذا العصر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، وهذا التسامح أو التفريط في مثل هذا الأمر، أدى إلى دفعها لأشخاصٍ لا يعرفون الأحكام التجويدية الأساسية فضلاً على غيرها، ولربَّما كان صاحبها من أهل اللحن الجلي، والواقع يُصدِّقُ ذلك أو يُكذِّبُه،وهذا هو التسامح المقصود أو المعنيّ به، وألوان التسامح متعددة فمن ذلك مثلاً: قراءة روايةٍ أو أكثر في مُدَّةٍ يسيرةٍ ليلةٍ أو ثلاث ليال أو حولٍ من ذلك، مما يدلُّ على تسامُحٍ وتساهلٍ في الإقراء.
قال الإمام الذهبي في ترجمة محمد بن أحمد بن سعود، المعروف بابن صاحب الصلاة، المُتوفى سنة خمس وعشرين وستمائة، قال ابن الأبَّار: « لم آخُذْ عنهُ لتسمُّحه في الإقراء والإسماع، سامح اللهُ لـهُ ».
قال الذهبيُّ: « قلت وأنا رأيتُ لـهُ ما يدلُّ على تسمُّحه بخطه أن بعض القراءة قرأ عليه في ليلة واحدة ختمةً كاملةً برواية نافع » اهـ( ).
وجاء في ترجمة ابن الوثيق إبراهيم بن محمد أبوالقاسم الأندلسي الإشبيلي المتوفى سنة أربع وخمسين وستمائة: « أن عبدالله بن منصور المكين الأسمر دخل يومًا إلى الجامع الجيوشي بالإسكندرية فوجد شخصًا واقفًا وسط صحنه وهو ينظر إلى أبواب الجامع فوقع في نفس المكين الأسمر أنهُ رجل صالح.... فابتدأ عليه المكينُ الأسمر تلك الليلة الختمة بالقراءات السبع من أولها وعند طلوع الفجر إذا به يقولُ من « الجِنة والناس » فختم عليه الختمة جمعًا بالقراءات السَّبع في ليلةٍ واحدة »( ).
ومن ألوان التساهل في هذا المقام إقراء أكثر من شخص في وقتٍ واحد، وهذا وإن أجازهُ بعضُ أهل العلم كعلَم الدين السخاوي( )، إلا أنَّ فيه تساهلاً كبيرًا( ).
وضدُّ التساهل التشدُّد والعَنت ولـهُ أمثلة مبثوثة في كتب تراجم القُرَّاء على نحو ما: جاء في ترجمة محمد بن أحمد بن بضحان أبوعبدالله الدمشقي( ) المتوفى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة أنهُ كان يجلس للإقراء وهو في غاية التصميم لا يتكلمُ ولا يلتفتُ ولا يبصُقُ ولا يتنحنحُ وكذلك من عندهُ ويجلس القارئ عليه وهو يشيرُ إليه بالأصابع لا يدعَهُ يترك غُنَّةً ولا تشديدًا ولا غيَره من دقائق التجويد حتى يأخذهُ عليه ويردَّهُ إليه وإذا نسي أحدٌ وجهًا من وجوه القراءة يضربُ بيده على الحصير، فإن أفاق القارئُ ورجعَ إلى نفسه أمضاه لـهُ وإلا لا يزالُ يقول للقارئ ما فرغتَ حتى يعييَهُ فإذا عيَّ ردَ عليه الحرف ثم يكتبه عليه فإذا ختم وطلب الإجازة سألهُ عن تلك المواضع التي نسيها أو غلِط فيها في سائر الختمة فإن أجاب عنها بالصواب كتب لهُ الإجازة وإن نسي قال لـهُ أعدِ الختمة فلا أُجيزك على هذا الوجه وهكذا كان دأبُه على هذه الحال بحيث أنهُ لم يأذن لأحدٍ سوى اثنين هما السَّيفُ الحريري وابنُ نَمْلة حسب لا غير في جميع عُمُره مع كثرة مَن قرأ عليه وقصدَهُ من الآفاق » اهـ.
قال أبوعمرو الداني: « لم يمنعني من أن أقرأ على أبي طاهر( ) إلا أنهُ كان فظيعًا وكان يجلس للإقراء وبين يديه مفاتيح فكان ربما يضربُ بها رأس القارئ إذا لحن فخِفتُ ذلك فلم أقرأ عليه وسمعتُ منهُ كُتبَه »( ).
وقال أبوعمرو أيضًا في جامع البيان: « قال لي أبوالفتح: قال لي عبدالباقي، قال لي أبوالحسن: قرأتُ على أبي عمران بالرقة، ثم قدم بعد ذلك إلى حلب، فقرأتُ عليه ختمةً ثانيةً، وقلتُ له: إني أفتخر بالقراءة عليك، فشدِّد عليَّ غيري ممن يقرأُ عليك ليعرفوا منزلتي عندك، ففعل ذلك، فلم يختم عليه غيري بحلب » ا.هـ( ).
قلتُ: إنَّ التساهُلَ والتشدُّد هما طرفا نقيض في جميع الأمور، وخير الأمـور أواسطهـا، إذ لا يُفهم مما تقدم أنَّ عرض المبتدئ كعرض المُنتهي، ولا العرض بأحد أوجه الرواية داخل في هذا بل هو مأخوذ معمول به كمـا تقدم.
وإنما التساهلُ يقع في سرعة الإقراء مع عدم الإتقان وهذا ما أردتُ بيانه وهو المقصود، نبَّه بعضُ السابقين إلى خطورته.
وأما التشدُّد في الإجازة بمعنى الغِلظة في الإقراء كما تقدم عن بعضهم، أو المبالغة والتنطُّع في الإقراء للوصول إلى درجة الإتقان فهذا مذموم أيضًا.
المبحث الخامس عشر
إجازةُ صغيرُ السِّن
المقصودُ بصغير السِّن الذي لم يبلُغ الحُلُم، ولا أرى مانعًا من إجازة صغير السِّنِّ إذا كان أمينًا عاقلاً ديِّنًا، يُرى فيه النبوغُ والأهلية. جاء في ترجمة عبدالرحمن ابن مرهف بن عبدالله بن يحيى بن ناشرة الناشري الشافعي ت 661هـ.
قال ابن الجزري: حدثني شيخُنا أبوبكر بن أيدغدي الشمسي قال: حكى لنا شيخُنا الصائغ قال: لما وصلتُ في القراءات على شيخنا ابن ناشرة إلى سورة الفجر منَعنِي الختمَ كأنهُ استصغرني على الإجازة قال: فشقَّ ذلك عليَّ وجئتُ إلى شيخنا الكمال الضرير فعرفتُهُ فقال: إذا كان الغدُ وجلس الشيخُ خُذ بيدي إليه قال: فلما أصبحنا وجاء الشيخُ أتيتُ الكمال الضرير فأخذتُ بيده من موضعه إلى عند ابن ناشرة فتحادثا ساعةً ثم قال: لِم لمْ تدعْ هذا يختمُ فقال: يا سيدي الناسُ كثير وهذا صغير واللهُ يعلمُ متى ينقرض هؤلاء الذين قرءوا علينا قال: فأمسكَ الشيخُ الكمالُ بفخذيه وقال: اسمع نحن نُجيز من دبَّ ودرجَ عسى أن ينبُلَ منهم شخص ينفعُ الناس ونُذكر به وما يُدريك أن يكون هذا وأشار إليّ، قال: فواللهِ لقد كانت مُكاشفةً من الشيخ كمال الدين فإنه لم يبْق على وجه الأرض من أولئك الخلائق مَن يروي عنهما غيري » اهـ( ).
المبحث السادس عشر
الإجازة من المصحف
الأصلُ في عَرْض القرآن الكريم أن يكون حفظًا عن ظهر قلب، ولم يكن عرض القرآن الكريم من المصحف من عمل السابقين( ).
والذي يظهر لي والله أعلم جواز هذا النوع من الإجازات بشروط هي:
أولاً: عدم قدرة القارئ على الحفظ.
ثانيًا: إتقان القارئ وضبطه.
ثالثًا: الإفادة في الإجازة بأنه أُجيز بقراءته من المصحف مباشرةً.
رابعًا: يُمنع المجاز بهذه الطريقة من إجازة غيره فهي لـه بمثابة إجازة خاصة.
خامسًا: عدم فتح هذا النوع من الإجازة أمام عآمة الناس، والضرورات تُقدَّر بقدَرها.
سادسًا: أن يكون الطالب المجاز في بلدٍ أو مكانٍ يَقِلُّ أو يندُرُ فيه الحفظة لكتاب الله --.
المبحث السابع عشر
قواعد عآمة في الإجازات القرآنية
إن هناك قواعد عآمة مُستلخصةً من مجموعة إجازات قرآنية تكاد تتفقُ جميعُها على صيغةٍ واحدةٍ وأسلوبٍ متقاربٍ وهي:
1- أن الشيخ المجيز يكتبها ويوقعها ويؤرخها إن اقتضى الحالُ بخط يده صيانةً لها من التدليس والتزوير ودفعًا للظنون والشكوك ورفعًا للشبهات والأقاويل.
2- يلتمسُها الطالبُ متى أحسَّ بثبوت قدمه في الميدان العلمي من أُستاذه.
3- أنها تكونُ شفويةً كما تكون كتابيةً وهي الأغلب وقد يُجمعان فيُجيزه كتابةً وقولاً.
4- تختلف طولاً وقِصَرًا وقبْضًا وبسْطًا حسب العلاقة التي تربط الطرفين ووفقًا لحقيقة الشهادة العلمية التي تُعطى لحاملها.
5- قد يتحدث فيها معطيها عن شيوخه والإجازات الممنوحة لـه، وقد تخلو من ذلك تمامًا.
6- يتطرقُ مانحُها في بعض الأحيان إلى بعض الجوانب الخآصة بحياته كأسفاره ومنازله.
7- تصفُ الممنوحَ بالمؤهلات العلمية التي خوَّلتهُ ستحقاق هاته الشهادة.
8- تشتمل على ما أُجيز فيه طالبُها وتحتوي في الغالب على وصايا من الشيخ وتوجيهاتٍ ودعاء( ).
للامانة العلمية منقول....