عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: يَا مُعَاذُ،وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ،وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ». فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ. فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذ؛ُ لَاتَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ،وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» رواه أحمد وأبو داود.
ثلاثة أمور حض النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على أن يستعين بالله في تحقيقها.
الأمر الأولى: ذكر الله.
قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعني»، طلب العون من الله عبادة، والمسلم يقول في كل ركعة يقرأ فيها بأم الكتاب) إياك نستعين) .
والمراد بالذكر: أن يتحرك اللسان بالكلمات التي تعبدنا الله بها، كالحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
والذكر أيسر العبادات وأصعبها! كيف ذلك؟ أيسرها لأنه لا يُكلفك أكثر من أن تحرك به لسانك.
والعسير الاستمرار عليه وإدامته. هذا لا يوفق له إلا المخلصون، فليس الشأن أن تذكر الله، وإنما أن تديم ذلك وتكثر منه. فإن الله تعالى قال عن المنافقين: )ولا يذكرون الله إلا قليلاً( (النساء: 142. أما المؤمنون فقد أمرهم بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) (الأحزاب: 41). وسبيل الإكثار من الذكرأمران:
الأول: الدعاء بأن يوفقك الله لذلك كما في هذا الحديث.
الثاني: بالتعرف على فضله، وتوطين النفسبين الحين والآخر على الاستمرار عليه، ومن جاهد نفسهفي ذلك وفقه الله، فمنيتصبر يصبره الله، ومن يصدق في سعيه يوفقه الله.
ويكفي لبيان فضل الذكر قولالله تعالى وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( (الجمعة : 10). وللفلاح ركنان: حصول المرغوب، وفوات المرهوب، والذكر يحقق هذين الأمرين.
الأمر الثاني: الشكر.
والشكر: عرفان الإحسان. ولماكان للشكر أركانٌ ثلاثة، وهي: الاعتراف بالنعمة بالقلب، والتحدث بهاوالثناء على المنعم، وتسخيرها في طاعة مسديها والمنعم بها، فلابد –كي يكون المرء شاكراً- من تسخير ما أولاه الله من النعم في طاعته، كما قال تعالى: (اعملوا آلَ دَاودَ شكراً) (سبأ: 13). ومعنى الآية: يا آل داود اعملوا شكرًا لله على ما أعطاكم، وذلك بطاعته وامتثال أمره. وهذا لا يكون إلا بعونٍ من الله تعالى.
الأمر الثالث: حسن العبادة.
والعبادة لاتكون حسنة إلا إذا توفر فيها أمران:
الإخلاص،ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا أخلص المرء في عبادته ولم توافق عبادته عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مردودة عليه، وإذا تابع ولم يخلص لم تقبل، فلابد من اجتماع الأمرين في كل عبادة نقوم بها. رأى سعيد بن المسيب رحمه الله رجلا يصلي بعد الفجر، فأنكر عليه،فقال له الرجل: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: "إن الله لا يعذب على الصلاة، ولكن عذب على مخالفة السنة" رواه البيهقي، وعبد الرزاق في المصنف،والدارِمي.
هذا الحديث جمع بين طاعة الجنان، واللسان والأركان.
فـاللهم أعني على ذكرك»: هذه طاعة اللسان.
وشكرك»: طاعة الجنان.
وحسن عبادتك» طاعة الأركان.
ومما دل عليه هذا الحديث فضل معاد بن جبلوقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: وَأَعْلَمُهُمْ –الأمة- بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» رواه الترمذي.
وقال عنه: مُعَاذُ بن جَبَلٍ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ»رواه الطبراني. أي: برمية حجر.
ومن فوائد الحديث:
أنّ من السنة إذا أحب الرجل أخاه أن يعلمه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» رواه أبو داود والترمذي. وعن أنس أن رجلا كان عند النبي صلى الله عليه
وسلم فمر به رجل، فقال: يارسول الله إني لأحب هذا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعلمته ؟قال: لا. قال: أعلمه. قال: فلحقه فقال: إني أحبك في الله. فقال: أحبَّك الذي أحببتني فيه. رواه أبو داود.
سبب اختيار معاذ دون غيره
أولاً: اختيار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـمعاذ رضي الله عنه، لأن له صفات تؤهله لأن يكون داعية، فلو جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أعراب بني تميم، وأسلم في ذلك اليوم، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لن يقول له: اذهب إلى اليمن وادع الناس، لأن هذا المدعو يحتاج أولاً إلى أن يتعلم ويتفقه.
وأيضاً: لم يختر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مثلاً- خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص ، أو غيرهم من قواد الجيوش، الذين دكوا حصون الضلال والكفر والإلحاد، لإرساله للدعوة إلى الله في اليمن ؛ لأن المسألة ليست مسألة جهاد أو سيف إنما هي مسألة علم وفقه بالدين, ومعرفة الحلال والحرام، فلا شك أن يختار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً رضي الله عنه، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، فهو من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم،وقد نفع الله بعلمه خلقاً كثيراً في اليمن ،كما نفع به في الشام بعد عودته، وفيها توفي رضي الله عنه.
وقد قال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلام : ( يا معاذ ! إني أحبك ) وهذه الكلمة أكبر وسام، وأعظم شرف، حيث يكفي أن يحبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمرء مع من أحب، وهذه تزكية من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإرساله إلى اليمن تزكية أخرى.
علماء الحديث رحمهم الله تعالى قد سموا هذا الحديث بالحديث المسلسل بالمحبة، ما معنى الحديث المسلسل بالمحبة؟ النبي قال لمعاذ إني أحبك فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ومعاذ قال لمن بعده ( وَأَوْصَى بِذَلِكَ مُعَاذٌ الصُّنَابِحِيَّ ، وَأَوْصَى الصُّنَابِحِيُّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأَوْصَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ ) إني أحبكم فلا تدعن أن تقولوا دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، والتابعون قالوا لكل من روَوا عنهم من تابعي التابعين كل واحد منهم يقول للآخر (يا فلان إني احبك ……) وهكذا تسلسلت إلى المشايخ الذين حدثوننا بهذا الحديث ويقول أحدهم إني أحبكم فلا تدعن أن تقولوا دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.